في ضرورة المرجعية
لكل فعل حضاري قواعده التي تصنع مقعوليته التاريخية وفي مقدمتها قاعدة المرجعية. والمرجعية في عمومها تقوم على ثلاث حقائق مترابطة ومتلازمة وذلك لكونها:
أولا : مصدرا لبناء تصورات الإنسان عن الذات والعالم والتاريخ ماضيه وحاضره ومستقبله وذلك باعتبار المرجعية مادة معرفية.
ثانيا : منهجا للتحليل ومعالجة المشاكل والمشاغل الحضارية وكذا أسلوبا للتنظيم الصحيح لما يختزله الضوء والمجتمع من أفكار وتصورات وسبيلا للتأمل والمراجعة.
ثالثا : عنوانا للانتماء الحضاري الذي يعطي لحاملها معنى لوجوده وحصانة من كل إلحاق أوتبعية قد تمارس ضده فتمسح كيانه وتمحووجوده إن استطاعت لذلك سبيلا.
ومنطلق ذلك كله هوما تكسبه المرجعية لصاحبها من معرفة ذاته منشأ ومنتهى ورسالة في علاقة سوية مع العالم المحيط به بفضل مبادئها العقدية ومخزونها المعرفي ومسلكها النظري. كما تمكنه من شروط الممانعة الحضارية التي تستوجبها سنة التدافع بين الهويات والانتماءات الأيديولوجية أوالعرقية أوالمصلحية.
فالمرجعية في هذا البعد الثالث تمثل روح الأمة وبها تنال ذات الأمة شرف وجودها وبغيابها تفقد هذا الوجود بكل خصائصه ومظاهره ومقوماته.
وإذا خلصنا إلى أن المرجعية هي أساس الوجود فإن الأهم من ذلك هووجوب مراعاة أصل هذه المرجعية لأن هذا الأصل هوالذي يمنحها سر الحياة والوجود كله وبالتالي امتلاكها القدرة الفعلية على أن تكون في مستوى الاستجابة للضروريات المشار إليها سابقا والتي تشمل أسئلة الشطر الأول (من أنا؟ من أين؟ إلى أين؟ كيف؟..) ومنهج التحليل (ترتيب العقل…) وسؤال الهوية وناموس المدافعة.
وللوقوف على أصل المرجعيات فقد ثبت عند المحققين أن هذه الأصول لا تخرج عن أحد خيارين: خيار الوحي وخيار الهوى، جاء عن الإمامالشاطبي قراءة “لقوله تعالى : {يا دوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله}، وقوله : “…فقد جعل الله اتباع الهوى مضاداً للحق وعدّه قسيما له”، وقال أيضا : “فقد حصر الأمر في شيئين : الوحي وهوالشريعة والهوى فلا ثالث لهما”.
وأما العقل فليس بخيار قائم بذاته وإنما هووسيلة للفهم والتنزيل والمتابعة ومن هنا تتحدد قيمته الوظيفية بالنسبة للوحي، قال الإمام الشاطبي : “الاستدلال بالمنقولات لابد فيه من النظر” وعن هذا النظر فقد ذهب كثير من المفكرين الإسلاميين إلى أن أول واجب على الإنسان أن يستفتح به حياته الراشدة في نطاق التكليف هوالنظر العقلي لأن ذلك النظر العقلي هوالفاتحة الضرورية لتحمل المنهج الخلافي طيلة الحياة” (خلافة الإنسان . د. عبد النجار/ص. 73).
وعن خيار الهوى فقد ذمه الله في كثير من الآيات القرآنية كما في قوله تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم} وقوله سبحانه: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن}. إنه خيار يقدم اليوم تحت عناوين كثيرة كالعقلانية والحداثة والعلمانية إلى غير ذلك من المسميات والمصطلحات…فهوعلى العموم خيار يرتبط بكل اتجاه ومنحى مضاد لمقتضيات منهج الله وشريعته. كما أنه خيار حادث ونفسي محكوم بالزمان والمكان مشدود في تفاصيله وكلياته بمقاصد وعلل غير محكومة أم مضبوطة بقواعد عقلية وخلقية معتبرة، إذ المصالح المطلقة هي رائده ومبتغاه بتأطير من قواعد عدة نذكر منها “الغاية تبرر الوسيلة”، “المصالح مقدمة على المبادئ” و”البقاء للأقوى”.
أما خيار الوحي فأهميته تظهر من خلال خصائصه وانعكاساتها الإيجابية على البناء الفكري والتربوي للإنسان.
1- الربانية :
تعني أن الوحي -كتابا وسنة – صادر عن الله عز وجل. فهما المصدران الحاكمان على ما سواهما.
أ- الاستقلال الفكري : إذ من مستلزمات الوحي – وهذا من تمام التوحيد - التعامل مباشرة مع نصوص الوحي دونما وسائط فكرية أومشيخية، خاصة وأن مقصد الشارع من وضع الشريعة بتحقيق حرية الإنسان وكرامته، ولا معنى لهذا المقصد إذا ما ظل الإنسان عاجزا عن تحقيق استقلاله الفكري وخضوعه للتوجيهات والرؤى البشرية.
ب- انضباط التفكير وسلامة المنهج : ذلك أن الانطلاق من القرآن والسنة يكسبان الفكر إمكانية الابتعاد إلى حد كبير من آفات الفكر البشري سواء كان جنوح هوى أوطغيان ظن أوقصور نظر إلى غير ذلك مما يبعد بصاحبه عن الحق والصواب، قال تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} (النمل :89).
2- الشمولية :
ويراد بها أن الوحي شامل ومهيمن على الزمان والمكان والحوادث {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا} {وما فرضنا في الكتاب من شيء}. وبهذه الخاصية تكون القدرة على توجيه كل نواحي النشاط البشري والمجالات الحيوية، كما تمكن من بناء تصورات وإنجاز مقاربات شمولية – إلى حد كبير- لكثير من القضايا التي تأتي في سياق قوانين المواجهة والمراجعة والتحدي والاستجابة.
3- الوسطية :
وقد تسمى توازنا أوعدلا وهي خاصية تميز المرجعية الإسلامية بل لقد جعلها الله تعالى عنوانا لهذه الأمة: “وكذلك جعلناكم أمة وسطا”.
ومرد هذا التوازن نابع من مراعاة الوحي لطبيعة الإنسان المتنوعة والمتعددة على مستوى التكوين والميولات والحاجيات… لذلك كلما شد التفكير أوالممارسة عن هذا التوازن وهذه الوسطية إلا ووقع في تفريط أوإفراط وصدق الله العظيم حيث يقول:”والسماء ر فعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان”، وقد أثمر الفكر الإسلامي بفضل هذه الخاصية عدة علوم منها: فقه الأولويات وفقه الموازنات اتجهت جميعها إلى تأطير العقل المسلم وحفظه من التطرف والشذوذ.
4- الواقعية :
لقد راعى الشارع واقع الإنسان من حيث هوكائن بشري مزدوج الطبيعة متعدد النزعات ذوطاقة محدودة يعيش في مجتمع متغير تحكمه مؤثرات كثيرة.
ومن واقعية الإسلام يتعلم الإنسان المسلم كيف يخطط ويدبر أمره منطلقا من تحليل وقراءة سليمة لواقعه من غير استسلام للضغوط ولا تجاهل للأسباب الحقيقية ولا إلغاء لمسؤولياته.
5- الموضوعية :
وبتعبير أدق الإخلاص، فالوعي مبني في أساسه على الإخلاص {وما أمروا إلى ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء}، فإذا كانت الواقعية توجب التعامل مع الواقع فإن أساس هذا التعامل وركنه الأساس هوالإخلاص أوالموضوعية بمعنى التوجه بمقصد التعب في كل جزئية من جزئيات الحياة ومراعاة الإخلاص والصواب في كل حركة وتوجه عمل.
إن هذه الخصائص وغيرها يصب في اتجاه واحد وهوالعمل على تخريج أوإخراج مكلف رسالي من صفاته الأساسية استقلال الرأي وصواب المنهج وقوة الكلمة انطلاقا من ربانية المرجعية الإسلامية والإلمام الشامل والكافي بالخطوط العامة لمستويات العمران البشري واستحقاقات مراحله التاريخية، أما شمولية الوحي فتفرض الحضور الواعي والمسؤول في كل المواقع كما أن الوسطية توجب الاعتدال في الرؤية وفي السير وفي العمل. ويؤكد كل من التوازن والواقعية على صورة اعتبار الواقع بكل تعقيداته وإكراهاته وسلوك منهج الحكمة وابتغاء مرضاة الله وتحقيقا للخلافة باعتبارها ترقية للذات عبر التفاعل مع الكون على خط العبودية لله.
قواعد التعامل مع الوحي
وتجدر الإشارة إلى أن الارتقاء في مقامات هذه الخصائص المميزة لمرجعيتنا رهين بالتزام عدة قواعد للتعامل مع الوحي.
وتنقسم هذه القواعد إلى نوعين : قواعد تربوية وأخرى علمية.
1- القواعد التربوية :
وملخصها أن عطاء ا لوحي لك من الفهم والعلم والقدرة على الفعل والحركةوالدعوة هومرتبط بمدى إقبالك عليه وعطائك له وتفاعلك معه والأخذ به سلوكا وأخلاقا ويتحقق ذلك:
- بالتعامل اليومي مع الوحي والصحبة الدائمة له قراءة وفهما وعملا والتزاما قصد الإخلاص والتعبد.
- بتوظيف مفاهيمه واستثمار آياته وأحكامه في كليات الحياة وتفاصيلها.
- بانطلاق الإنسان من الوحي – فردا وجماعة – واعتبار كل التفاسير والقراءات والشروح فهوما بشرية غير ملزمة ولكن يستأنس بها فقط.
2- القواعد العلمية :
وتتلخص في :
- اعتماد علوم الاستنباط المعتبرة عنه جمهور علماء الأمة في فهم نصوص الوحي.
-اعتبار مقاصد الشريعة الإسلامية لأمرين اثنين :
- الأول : سد باب الاحتيال على الشرع أوالمداهنة في حكم الله تعالى
-الثاني : اعتبار المقاصد مفيد للمجتهدين بحيث يمكنهم من احتواء الواقع على اختلاف تشكلاته ومظاهره وهذا ما عبر عنه الإمام الشاطبي بقوله: “… ا لمجتهد إنما يتسع مجال اجتهاده بإجراء العلل والالتفات إلى المعاني التي شرعت لها”.
- الانطلاق من نصوص الوحي سعيا لمعرفة حكم الله واسترشادا بهديها لا تبريرا لواقع فاسد أوسلوك سابق.
- التمييز بين كليات الشريعة وجزئياتها وأصولها وفروعها وبين ما هوثابت وما هومتغير وبين ما يقبل الاجتهاد وما لا يقبله.
- ربط النصوص بأسباب نزولها وورودها درءا لكل إسقاط أواستثمار غير سليم.
ويمكن القول بأن كل من رضي الله ربا والإسلام دينا ومحمدا -ص- نبيا ليس له الخيرة من أمره إلا أن يتبع أحسن ما أنزل إليه من ربه، وأن يتبع هذا النبي الأمي وذلك بموجب عقد الإيمان بدليل قوله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مومنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا}(الأحزاب/36)، ذلك أن المرجعية الإسلامية منطلق أساسي للتغيير الاجتماعي مما تكسبه لصاحبها من حياة ونور يسلك بهما مسالك الحياة ويحقق بهما أمانة الاستخلاف حيث يخلق خلقا جديدا قادرا على صناعة الحياة وإغناء التاريخ بمنجزاته العمرانية.
وعقد الإيمان هذا يمنح الكيان المجتمعي كل عناصر التوازن والانطلاق في مجالات الشهود الحضاري، فتستعيد الأمة من جديد خيريتها التي تميزت بها عن سائر الأمم والتي تجعلها الأمة الشاهدة. فالمرجعية بهذه المعاني كلها تكون شرطاً أساسا للفلاح الفردي والجماعي في الدنيا والآخرة.
فحينما يحتكم الفرد إلى ميزان الله فهويعيش حقيقة كل الأبعاد الإيمانية من توحيد وعبودية وإخلاص وتوكل ويقين، وينطلق من كل القيود فلاحظ لنفسه ولا مصلحة لذاته يعيقان سيره بل يعمل ويتحرك على بصيرة من ربه.
أما على المستوى الجماعي فتكون المرجعية الإسلامية داعية لخلق مجتمع متماسك البنيان قوي بتكافل أعضائه وتضامنهم وذلك استجابة لوحي النبوة الذي فرض أخوة العقيدة وجعلها تفضل كل العلاقات الاجتماعية المتعارف عليها حيث تعيش الجماعة المسلمة وحدة المبدأ والعقيدة والفكر والسلوك، وتتميز ببنية اجتماعية متينة تستند إلى أخلاق المحبة والأخوة وحسن الظن، وتحافظ على بنائها ووحدتها بالرجوع إلى أمر الله ورسوله في كل ما من شأنه أن يهدد كيانها فتكون بذلك مرجعية الوحي عاصما لها من كل تفرقة وتنافر.
والواجب اليوم يستدعي من الاجتهادات الحركية أن لا تغيب هذا المعنى عنها حتى تستطيع استجماع شروط القوة واستثمار سنن التغيير وتستبين السبيل القويم.
ذلك أن المتأمل في الساحة الحركية الإسلامية يقف على عدد من المشاكل الذاتية التي تعاني منها بعض المدارس الحركية والأخطاء التي تقع فيها اتباعا، والأمر يرجع بالأساس إلى افتقادها العقلية الأصولية ولمنهج التحليل، فتجد بعضها يقوم واقعها السياسي أويحدد موقفها من بعض القضايا الفكرية والاجتماعية من خلال كتابات جاهزة، تكون في حقيقتها اجتهادات فردية تفتقد في كثير من الأحيان إلى الدقة والعمق لأنها صيغت في إطار فكري تأملي ظني، الشيء الذي لم يجعلها ترقى إلى مستوى الارتكاز عليها لتأصيل فعل سياسي راشد مثلا، وقد تكون كتابات من نتاج واقع وتجربة خاصين، فيكون من غير المعقول تنزيلها على غير واقعها، ثم إن مثل هذا الاتجاه يخنق إمكانات الإبداع والتجديد ولروح المبادرة وأجر التعبد وهي إمكانات لا تتحقق أوتكتسب إلا من خلال التعامل المباشر مع النص الشرعي لكونه نصا فوق الزمان والمكان بخلاف النص البشري المحكوم بظروفه ومقامه، فمن تمام حسن امتثال أحكام المرجعية الإسلامية أن لا يتحرك الاجتهاد من منطلقات خاصة.
وهناك اتجاه آخر يعتمد المنهج الذوقي وتمثله التي تجمع بين المسلك الصوفي الطرقي والمسلك الحركي السياسي وهواتجاه في عمومه اتجاه مزاجي مرتهن بنفسية الشيخ – قطب الحركة ومحورها الرئيس- وأحواله المقامية ويعتمد بشكل أوبآخر على الرؤى كمرجعية لتحركاته ومواقفه سياسية كانت أواجتماعية فهومنهج يكرس الاستبداد بالرأي ويمنع المواهب من الظهور لكونها تحتاج إلى إذن الشيخ كما أنها تتجاوز الكثير من الحقائق الشرعية وفي مقدمتها إفراد الله تعالى لأنبيائه بالعصمة والسداد.
وهناك اجتهاد ثالث يسميه البعض اتجاها ظاهريا أواتجاها سلفيا، من خصائصه أنه سجين المباحث اللغوية التي لا تتجاوز عن إجراءاها بيان ظواهر الأحكام بعكس ما أكده الشاطبي في قوله: “فالمجتهد إنما يتسع مجال اجتهاده بإجراء العلل والالتفات إلى المعاني التي شرعت لها الأحكام”فلابد من التمييز بين مستويات الخطاب الشرعي وضرورة التعامل مع مقاصد ذات الخطاب.
تلك كانت إشارة إلى بعض الاجتهادات حينما لم تتبنّ خصائص مرجعيتها الإسلامية وهذا يكون أشد وضوحا عند التعامل اليومي مع الأفراد حيث تجد أحدهم يتعصب لرأي جماعته أوأحد الكتاب الذين يعجب بآرائهم وقد يترك قول الله ورسوله -ص- إلى قول هؤلاء من غير أن يلتفت إلى خطور ة الأمر حينما قدم بين يدي الله ورسوله وهوأمر منهي عنه شرعا.
من أ جل ذلك وجب ربط كل مدعو بالله تعالى مصدر مرجعيتنا حتى نبعده عن كل شطط في التفكير أو”السلوك لأنه تحتكم في كل حركاته إلى أمر الله سبحانه معبرا عن وجوده القوي الحكيم وكلمته القوية الحكيمة المستقاة من القوي العزيز الحكيم.
إذاً لا يكفي أن ندعي إسلاما أوإيمانا أومرجعية عليا إذا لم نتحقق من كل ما ندعيه فكرا وعقيدة وسلوكا.
لابد من أن تترجم أفعالنا أفكارنا وأقوالنا حتى نحفظ وجودنا وميراثنا ونضمن مستقبلنا ونراغم شياطيننا وخاصة فيما يتصل بالوحي.
علاقة الإنسان يجب أن تكون قوية دائمة مستمرة حتى يكون الأخذ والعطاء والتفاعل المباشر مع النص على جميع المستويات فمها وتنزيلا علنا نخرج مما نحن فيه، فنحيا من جديد بالقرآن روح الأمة ونكتسب النور الذي نمشي به في الحياة.
سعيدة نعيم