غربة العربية : 2- تحرير الكلام في تصحيح “الكلام”1


اعترى العربية اليوم أساليب غريبة عنها غزت الصحف والمجلات والمؤلفات والبحوث الأكاديمية، و استعملت في الكتابات المتخصصة، وقفزت إلى ألسنة وسائل الإعلام  والتعليم وخطب المنابر واللافتات  والشعارات، وباتت العربية من جرائها في خطر محدق يستولي على جسم اللغة مثلما استولت أخطار عديدة على عقل الأمة وعقيدتها وحضارتها، فأصبحت العربية في غربة كغربة الدين، وكلما مر حين من الدهر تسللت ألفاظ أو أساليب أو تراكيب غير قياسية إلى الألسنة، فانتهى الأمر باللغة إلى أن اتسع فيها حيز المستعمل غير القياسي، وتناقصت أطراف المستعمل القياسي، ومضى هذا الخرق يتسع والهوة تزداد عمقا، فبدأ اللسان يختل وعروبته تضمحل وعجمته تستفحل، فإذا اجتهد المتكلمون في تداول موضوعاتهم وقضاياهم اليومية أدوها بلهجات محلية ممقوتة تعلوها الركاكة وسوء البيان، ولا يفهمها غيرهم.

صحيح أن مظاهر الانحراف اللغوية قديمة في تاريخ اللغة العربية تمتد إلى القرون الأولى، حين دخلت في الإسلام أمم وأجناس مختلفة، انتقلت إلى المجتمع الجديد بعاداتها اللغوية  وعجمتها ورطانتها، ولكن هذه المجموعات اجتهدت للالتحاق بأهل العربية في الفصاحة  وطلاقة اللسان، واجتهد لهم علماء النحو واللغة حين وضعوا لهم مؤلفات تمكنهم من دفع العجمة  والرطانة واكتساب البيان والفصاحة، فوضعوا قواعد النحو لانتحاء سمت “كلام العرب في تصرفه من إعراب وغيره…  ليلحق من ليس من أهل العربية بأهلها في الفصاحة، فينطق بها وإن لم يكن منهم، وإن شذ بعضهم عنها رد به إليها…” (الخصائص لابن جني: 1/34).

بينما انتقلت آثار عجمتها إلى أهل العربية، واتسع الانحراف اللغوي وتطور مع تاريخ العربية حتى عصرنا الذي برز فيه الانحراف في أجلى مظاهره و زاده بروزا عوامل طارئةمن الاستعمار، ومنافسة اللهجات المحلية التي أثقلت كاهل الفصحى، وضعف الهمم، وتراجع القدرات عن التلقي والاستيعاب والممارسة.

ولوضع اليد على الداء بطريقة ملموسة، تجسم ما تعانيه العربية من انحدار وتراجع، أعرض نماذج وأمثلة من العبارات والتراكيب والاختيارات التي ترد في بعض البحوث الأكاديمية، وهي عبارات وتراكيب واختيارات يغلب عليها الخروج عن القياس والركون إلى الأوجه المبتذلة الشائعة التي تخالف المسموع والمطرد

والغاية من عرض هذه النماذج الإنباه على جهات المزالق اللغوية المرتكبة التي يرد الاعتراض على أصحابها من جهتها، وذلك قصد الإفادة منها وتحسين مستوى الاستعمال اللغوي في كتابة البحوث ذات المستوى الأكاديمي العلمي.

وقد اعتمدت في استخراج هذه الملحوظات على بعض  البحوث الجامعية، وتحريت عدم ذكر عناوينها وأسماء أصحابها، لأن الغاية هنا هي الاستفادة من الأخطاء لا عزوها إلى مرتكبيها. ولا يعني هذا الضرب من العروض الغض من شأن ما ينجز من البحوث العليا، فلا يمكن عد هذه التعليقات معادلا نقديا صارما للبحوث المنجزة، وذلك لأن العناية التي كتبت بها والجهد الذي بذل في إنجازها لا يعادلان في النوع وطول الزمن والمشقة العناية بكتابة نقد وتعليقات عليها.

ويمكن تقسيم الحديث عن هذه القراءة اللغوية إلى أقسام:

أ- قسم للعناوين المختارة للبحوث.

ب-وقسم للشواهد والأمثلة.

ج- وقسم للمعجم اللغوي المستعمل، وللتركيب والنحو.

د-وقسم للعبارة  والأسلوب.

أ- فأما ما يتعلق بالعنوان والموضوع. فمؤداه أن العنوان المثبت على  واجهة البحث يدل على الموضوع المطروق يتخذ علما عليه، ويعد أوجز عبارة تختصر البحث كله. وتقتضي هذه الصفات أن يختار الباحث من العناوين أوجزها ومن الألفاظ أقلها، فيختار ألفاظه اختيارا يراعي فيه الدقة البالغة في الدلالة، وينزلها منزلة المصطلحات الصارمة والمفاتيح المناسبة التي تلج بالقارئ في عالم الموضوع.

لكن الملاحظ أن بعض العناوين التي اختارها باحثون لبحوثهم العليا يعتريها ما يخالف المقاييس المذكورة، فترِد ذات طول غير مرغوب فيه، لأن الطول والإسهاب في ألفاظ العناوين لا يناسب الوظيفة المنوطة بالعنوان في الأصل، وهي اختزال مضمون البحث كله في بضعة ألفاظ. ومرد هذا الحرص على الطول رغبة الباحث في تفصيل البيان وذكر كل ما يتعلق بالموضوع وهذا مما يرهق الإدراك الذي يهتم بجملة الأشياء قبل التفصيل فيها، ويزج به في متاهات لفظية يفقد فيها رأس الأمر ولا يظفر إلا ببعض العناصر، وقد يكون أمر الطول راجعا إلى أن الباحث لا يمتلك قدرة لغوية على الاختزال و اختيار أنسب الألفاظ لعنوانه، أي أنه قد يكون أمر الطول راجعا إلى غياب ملكة الإنجاز والتركيز.

كما ترد هذه العناوين أحيانا ذات تعقيد في العبارة وتقديم وتأخير، واضطراب و حشو، وغير ذلك من المظاهر التي تعكر صفو العنوان البسيط ذي العبارة السهلة الناصعة التي ينبغي أن تعتمد في الغالب على خبر حذف مبتدؤه، وتتبعها شبه جملة تقيد الجملة الاسمية، هكذا: “ظاهرة كذا في كتاب كذا”، وقد يضاف إلى ذلك إشارة عامة إلى منهج الدراسة: “ظاهرة كذا، في كتاب كذا، دراسية لغوية (أو أدبية أو نفسية أو اجتماعية أو تاريخية…)”.

ب-وأما الشواهد والأمثلة، فالملاحظ فيها عدم الاعتداد بضبط ألفاظها في غالب الأحيان، لأن ضبط الشواهد شرط في قراءتها القراءة السليمة وتخريجها كما وردت في مصادرها. وقد يتعين ضبط النص برمته إذا كان الأمر يتعلق بالتحقيق،  وآفة البحث المحقق إهمال الشكل للنص والعبارات المشكلة، ومما يثيره عدم شكل الشواهد والعبارات المشكلة  والنصوص المحققة عناء القارئ في تبين الألفاظ التي تعبر عن المعاني، واضطرابه بين احتمالات إعرابية مختلفة للفظ واحد…

إن الحركات  التينغفل قيمتها ولا نهتم بإثباتها في مواضعها من النص “هي حروف متممة للكلمات، وقد أهملت كثيرا حتى ظنها بعض المعاصرين قيما صوتية ثانوية، فتسامحوا فيها بالحذف والتغيير والتشويه، إنها في أول الكلمة ووسطها وآخرها حروف كاملة تسهم في تأدية المعنى وتحديده، فإن لم تعط حقها، في القراءة والكلام والتفكير، فسد المعنى أو دخله الاختلال والسطحية فلابد من إثبات كل رمز صوتي يساعد على ضبط الكلمة حركة كان أم همزة أم تضعيفا أم تنوينا (المهارات اللغوية و عروبة اللسان د. فخر الدين قباوه، ص: 131).

ولم يقف الأمر عند هذا الحد- أي إهمال علامات الشكل، وهي علامات صوتية تحافظ على علامات إعراب الكلمات- ولكنه تعدى ذلك حتى صيغة النطق بالكلمات أو الأداء الصوتي لها: ففي المقدمات الشفوية التي يقدم بها الباحثون أعمالهم ويدافعون عنها بين يدي لجنة التحكيم، يلاحظ ضعف سافر في مستوى النطق العربي الفصيح، وهذا مظهر من مظاهر المعاناة التي تشتكي منها العربية اليوم، حيث تأثر الأداء الفصيح باللهجات المحلية التي جمدت عليها ألسنة الناطقين، ولم يسلم منها الباحثون المثقفون، ولم تترك موضعا إلا غزته واستولت عليه.

والملاحظ في الشواهد أيضا – وأخص منها بالذكر  الشواهد الشعرية – أنها لا تنسب إلى مصادرها، ولا يبين وجه الاستشهاد بها، ولا تعزى أحيانا إلى أصحابها، وقد يذكر الباحث أنه لم يعثر على قائل البيت الشعري، بينما هو مذكور في كتب التراجم وكتب الشواهد واللغة والأدب وشروح الشعر… فتظل هذه الشواهد مجهولة يصعب الوقوف على ما يراد منها، وقد يصاحب نقلها التصحيف  والاضطراب والخطأ وكل ما يسيء إلى قراءتها وفهمها، فلا تكاد تؤدي ما سبقت له من مهام.

وستخصص الحلقة القادمة -إن شاء الله- للحديث عن لغة البحوث، وهي أهم ركن من أركانها.

د. عبد الرحمان بدراع

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>