مع كتاب الله عز وجل :  تفسير سورة التغابن 20 {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا}


استعمال سلاح الوقاية لتفادي السقوط في مستنقع الوثنية

وهذا عمر حينما رأى الناس أوشكوا أن يفتنوا ببطولة خالد ابن الوليد حيث أصبح الجميع يتكلم عنه، ويهتف به وببطولاته فما كان من عمر رضي الله عنه إلا أن عزل خالد بن الوليد.ليعرف الناس أن النصر بيد الله، يتم على يد خالد وكل قائد مخلص، وفعلا ظهر قواد جدد انتصر الإسلام على أيديهم. ذلك أن الإسلام كان حريصاً كل الحرص على ألا يسمح للمسلمين أن ينزلقوا إلى شيء من الوثنية من أي طريق ولهذا كان الفقهاء يتشددون التشدد كله فيغلقون كل الطرق التي تؤدي إلى  إفساد العقيدة. فقد كان العلماء مع علمهم أن الإسلام يحب الطيب والروائح الجيدة في الدور وفي المساجد، كانوا مع ذلك يكرهون إدخال البخور إلى المساجد، لأن هذا وإن كان يطيِّبُ الجو ويعطِّره، ولكنه كان ذريعة وطريقا إلى إدخال النار إلى  المسجد، والنار من معبودات المجوس، فكانوا يخافون أن يكون للنار في المسجد دَوْرٌ مزدوج هي بالنسبة للمؤمنين مصدرُ طيب، وبالنسبة للمجوس متوجَّهٌ وقبلةٌ للعبادة فالحرص على المحافظة على العقيدة أدى إلى هذا التحفظ.

وحينما توجه عمر بن الخطاب رضي الله عنه  إلى الشام رأى الناس متحلقين بقبر  نبي الله دانيال وجثته، وكانوا شديدي الحرص على التبرك بها لأنها جثة نبي لم تتعفّن رغم مرور مئات السنين عليها، فخوفا من الافتتان بها أمر عمر بن الخطابرضي الله عنه بجثة النبي دانيال، فأوقف نهراً ومنعه من الجريان، ثم حفر في قعر النهر قبراً لهذا النبي المحفوظة جثته، فأدخله في القبر وغطي عليها، وأطلق عمر بن الخطاب  النهر، فما عاد أحد يعرف قبر النبي دانيال.

لا حظوا كيف كانت الأمة الإسلامية تحافظ على العقيدة وتحرص على بقائها نقية مصونة من العبث لكن الناس الآن أصبحوا لا يهتمون بهذا الأمر، بل يشجعون مظاهر الشرك، وأكثر من ذلك نرى الناس إذا أعجبوا بشخص رفعوه، وألّهوه، وربما وضعوا صورته في القبلة فلا يصلون إلا والصورة بين أعينهم، بعض الناس يكبِّرون شخصاً من الأشخاص فيقولون : هذا زعيم، أو عالم، أو شيخ، فيضعون الصورة أمامهم، فإذا أرادوا أن يصلوا كبروا وهم ينظرون إليها، وهذا هو الطريق إلى الشرك أو هو الشرك بعينه، وهذا لا يجوز.

المقدسون للبشر لايعرفون الفرق بين الألوهية والبشرية

يجب إعادة البشر إلى مكانه وإظهار بشريته. حينما كان الناس يتحدثون عن عيسى وأمه أراد الله تعالى أن يبين أن عيسى ليس ابنا لله بل هو بشر، وفيه طبيعة البشر قال تعالى: {وأمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَاكُلاَنِ الطَّعَام}(سورة المائدة)، إذ يلزم من أكل الطعام حملُ الأوساخ في البطن، والذهاب إلى المرحاض، فالذي ياكل الطعام يجتمع الطعام في بطنه ويخرج بعد ذلك غائطاً، فهل يصلح هذا أن يكون إلاها؟ لا، لذلك اكتفى القرآن بهذا وقال بأنهما ياكلان الطعام، والذي يذهب إلى المرحاض لا يستحق أن يُسْجَد له وهو جالس مغلوب يُغالبه الشعور والرغبة في التبول أو التغوط، ولا يمكن أن يكون إلاها. الشعوب القديمة إنما وقع لها ما وقع بسبب هذه التصورات الخاطئة التي يحكيها القرآن الكريم، ويرد عليها، وهو الرفع من البشر،ومن الأنبياء إلى ما فوق البشرية، هذه النِّحلة دينٌ أرضيٌّ، وهي التي عليها جماهير كثيرة في الهند البوذية، فالبوذية عبارة عن انحراف ليس إلا تقديساً لشخص بوذا الذي كان رجلا معروفا بأنه عاش وتوفي في سنة 480ق.م، وكان في هذا الإبان في الهند،وكان قد ولد قرب حدود النيبال. كان هذا الرجل حكيما،وهو من أولاد الأمراء عاش مترفا وعندما بلغ سن الثانية والعشرين من عمره ظهر له أن يتقشف، وأن يترك مظاهر الإمارة، واعتزل، وطلق زوجته، ومال إلى الخشونة وإلى شظف العيش، وكانت له آراء في الناس وفي الخير وفي الشر، وكان يدعو إلى المحبة ويدعو إلى ترك الشهوات،ويدعو إلى ترك السرقة.

لا شك أن هذه الأشياء تلقاها من بقايا رسالة الأنبياء السابقين، لأن الأنبياء مروا في هذه الشعوب، فحفظت هاته الكلمات عنه وجُمعت، فحينئذ غُيِّر اسمه الحقيقي، وأصبح يطلق عليه اسم “بوذا” أي العالِمُ الكبير، ثم أصبحت الآراء حوله تختلف، فقال بعضهم بل إن روح القدس نزل على أمه العذراء، وقالوا فيه نفس ما قال المسيحيون في عيسى عليه السلام، فأصبح “بوذا” يحمل طبيعة إلاهية، ومن يومئذ صار البوذيون “أتباعه” يؤلهونه، لأنه كان حكيما ومرشدا وصالحا، وقالوا بألوهية البشر، ولا زال بوذا يرسم الآن على أساس أنه بشر ليس كجميع البشر. ولهم في ذلك خرافات شنيعة جدا خصوصاً عند الهنود حيث قالوا بأن طبيعته تحولت إلى نور، وأنه سيعود من جديد إلى  الحياة، وأشياء كثيرة يعتقدها البوذيون، خصوصا البوذيين المتدينين وهم الذين لهم أفكار من آثار الغلو ومن آثار تقديس الإنسان. أما البوذيون الجنونيون فهم أقل غلوا.

هذا الذي وقع للبوذية هو الذي وقع للمسيحية ويقع الآن للأحمدية، فيجب التنبيه والتفطن إليه لكي لا ننزل إلى تقديس الأشخاص ورفعهم فوق مستوى الأفراد، وجعلهم ملهمين، وبأنهم لا يخطئون، ثم الذهاب بهم إلا مرتبة أخرى.

رد القرآن الكريم هذه الدعوة الباطلة وبين أن المشركين متناقضون حينما رفضوا أن يكون الرسول بشرا، وافترضوا أن يكون من نوع آخر. إن الذي يفترض أن يكون الرسول فوق البشر لا ينبغي أن يسجد للحجر. الالاه يصلح أن يكون من حجر، والنبي يجب أن يكون من شيء فوق البشر!! وعلى كل حال البشر أفضل من الحجر ومن البقرة ومن الشجر ومن كل (معبوداتهم) الجامدة.

لا يقبلون هداية البشر الصالحين ويقبلون هداية الطالحين

ثم قالوا : كما بين القرآن الكريم: {اَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} أي لا يقبلون بهداية البشر الصالحين ولكنهم وقعوا في هداية البشر المفسدين، لمْ يقبلوا من الرسل وقبلوا من عمرو بن لحي الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم : >لقد رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في نار جهنم<( أي أمعاءه)،  فقد كان جاهليا وكان يشرع للناس، فهو الذي وضع للناس الحامي، والبحيرة، والسائبة، والوصيلة كما بيّن الله في سورة الأنعام، هذه الأشياء حكاها القرآن عن العرب الذين كانوا يتبعون تشريع البشر ولكن لما جاءتهم الرسل بالوحي رفضوه، وقالوا أبشر يهدوننا.

من حكمة الله عز وجل أنه جعل الرسول من البشر فالبشر يعرف بعضهم بعضا، ولهم صفات ومميزات وخصائص، فالنبي يكون منهم، فهو لا يخالفهم في اللغة إذا كانوا عرباً فرسولهم يتكلم بالعربية مثلهم، قال تعالى : {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} ولو أنه تحدث بلسان آخر لكان بالنسبة إليهم غريبا، يجب أن يكون لابسا لباسهم، حينما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة لم يأت بزي خاص للعرب،  كان صلى الله عليه وسلم يلبس الجُبّة والعمامة ويأكل مثلهم يتميز فقط عنهم في الابتعاد عن الأوثان والأرجاس.

إن الذي فر من تشريع الله لا يقع إلا في تشريع البشر، قالوا إن هذا الدين لا يجب أن يحمله البشر إلينا بل يجب أن يحمله ما هو أسمى من البشر، لكن الإنسان في الجاهلية كان يسجد للتراب والحجر، ولتماثيل على صور حيوانات، سبحان الله، البشر لا يصلح أن يكون نبيًّا، ولكن التراب والتماثيل تصلح أن تكون ربّاً؟؟ هذا منطق  ساقط  متداع، هؤلاء قدسوا الدين مرة، وسجدوا للتراب وللنار وللشجرة مرة أخرى، إنه ليس تقديسا إنما هو محاولة من التخلص من الدين بدعوى من الدعاوي قالوا: لا نحب أن يأتي الدين على لسان بشر فطلبوا أن يكون حامل الدين ملَكا، فليكن ملكا، هذا الملك هو الذي يأتي لمحمد صلى الله عليه وسلم فهوواسطة في الدعوى، ولو فرضنا هذا الرسول بشرا وقبلناه فيجب أن يكون عظيما من عظماء قريش {لَوْلاَ نُزِّلَ هذَا القُرْآن على رَجُلٍ من القريتين عظيم} محاولات عِدة للتملص من الدين.

فإذن هذا النبي لا يمكن أن يسلم بحال من الأحوال، والحقيقة أنهم يحبون الكفر لذلك أقبلوا عليه بلا  قيد ولا شرط، بينما النبوة يضعون فيها ألف قيد  وشرط..

إن كتاب الله عز وجل يحكي لنا شيئا خفيا من تاريخ البشرية وهو تعطش البشر قديما إلى أن يكون للرسول النبي اتصال أكبر بالعالم العلوي، وأن يكون الرسول الموحى  إليه فيه امتزاج بين الألوهية والبشرية، وهذه الفكرة أثبتها علماء الاجتماع وعلماء التاريخ ولكن بعد دراسات شاقة مضنية.

هذه الكلمة القرآنية {أبشر يهدوننا} ألفت فيهاوفي فهمها كتب عديدة، أبانت أن التوجه البشري القديم كان ينزع إلى الربط بين الرسالة وبشرية الالاه، و عند شعوب كثيرة انحرفت عن عقيدتها، وجد فكرة تقديس الإنسان ليصير إلاها، فيعبد بالتالي، وهذه الفكرة عند هؤلاء العلماء منشؤها وسببها شيء واحد هو التقديس والإعظام للاسلاف  والأجداد الصالحين منهم بالخصوص. فجاء القرآن ليوضح الأمر توضيحا جليا، ويعطي للبشر حقيقته، وللرسول حقيقته، وللإله حقيقته، وبذلك تتضح التصورات العقدية تصورا واضحا لا لبس فيه ولا غموض.

د. مصطفى بنحمزة

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>