نظم الإسلام شؤون الحياة البشرية تنظيما محكما، فنظم العلاقات بين أفراد المجتمع، وجعل أساسها التراحم والتكافل، وأوجب العمل والكد في طلب الرزق الحلال. والقرآن الكريم يدعو الإنسان إلى العبادة والعمل معا، ليستقيم نظام الحياة، وليسعد في دنياه وآخرته. قال تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله و اذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون}(الجمعة : 10) والرسول صلى الله عليه وسلم يوجهنا إلى الكسب الطيب المشروع فيقول: >رحم الله امرأ اكتسب طيبا، وانفق قصدا، وقدم فضلا ليوم فقره وحاجته< فكان الصحابة رضوان الله عليهم، يعتبرون الكسب وطلب الحلال، من آكد الواجبات الشخصية التي لا مندوحة عنه، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يسعى إلى السوق طلبا للكسب يوم بويع بالخلافة، حتى عارضه الصحابة في ذلك، وفرضوا له أجرة تكفيه من بيت مال المسلمين، وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقو ل: > إني لأرى الشاب فيعجبني فأسأله: هل له من كسب؟ فيقال: لا. فيسقط من عيني< وقال صلى الله عليه وسلم : >إن من الذنوب ذنوب، لا يكفرها الصلاة ولا الوضوء ولا الحج ولا العمرة< قيل: فما يكفرها يا رسول الله؟ قال: >الهموم في طلب المعيشة< كنز العمال. والرسول صلى الله عليه وسلم ينصح سعد بن أبي وقاص، يقول له : > يا سعد، أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفسي بيده، إن العبد ليقذف باللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه عمل أربعين يوما< وقال صلى الله عليه وسلم لكعب، > يا كعب بن عجرة: إنه لا يربو لحم نبت من سحت، إلا كانت النار أولى به< الترمذي. وحدث أن الرسول صلى الله عليه وسلم، استعمل رجلا من الأزد على جمع الزكاة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي. قال راوي الحديث: فقام رسول الله فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : >أما بعد فإني استعمل الرجل منكم على العمل بما ولاني الله فيأتي فيقول: هذا لكم وهذا هدية أهديت إلي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقا، والله لا يأخذ أحدكم منه شيئا بغير حقه، إلا لقي الله يحمله يوم القيامة< البخاري و مسلم وأبو داود. أي أنه لا ينبغي للعامل أو الموظف، أن يأخذ أكثر من راتبه، كما لا ينبغي لصاحب العمل شخصا كان أم دولة، أن يأخذ من العامل أو الموظف أكثر من راتبه، وإذا كان لابد من تكليف العامل أو الموظف أكثر من جهده، وجب إعطاؤه الأجر الإضافي، حتى يحصل كل منهما على المال الحلال. قال صلى الله عليه وسلم : >إن إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم مما يغلبهم فأعينوهم< متفق عليه.
وهكذا يرسم الإسلام الطريق السوي للكسب المشروع والرزق الحلال، ولم يكتف بهذا بل جعل طلب الرزق الحلال تعففا عما في أيدي الناس، فرضا دينيا. أثنى الصحابة رضوان الله عليهم ذات يوم على رجل فقالوا: >يا رسول الله إن فلانا يصوم النهار، ويقوم الليل ويكثر ا لذكر< فقال صلى الله عليه وسلم : >أيكم يكفيه طعامه وشرابه؟< قالوا: كلنا يا رسول الله، فقال: >كلكم خير منه< وقال صلى الله عليه وسلم : >ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده< البخاري.
ولقد ثبت أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه، أخذ لقمة من غلامه مشاركة له وتعاطفا معه، فلما علم أن فيها شبهة أخرجها من فمه يقذفها. فلما سأله غلامه مستغربا ما فعل خليفة رسول الله لتفاهة اللقمة. قال أبو بكر رضي الله عنه: والله لو خرجت روحي معها لأخرجتها، لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: >كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به< الطبراني.
فالكسب ا لطيب واللقمة الحلال طريق إلى النجاة في هذه الحياة الدنيا، فهو امتثال لأمر الله تعالى عندما خاطب المؤمنين بقوله: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم}(البقرة : 171). إن الحرص على الكسب غير الطيب، وغير المشروع، هو الطمع في الدنيا، و ذلك الذي يدفع الإنسان إلى التعدي على حقوق الناس. فحرام إذن أن تتجه أيها المسلم إلى المال الخبيث تحرزه، ولا من مال الدولة فتأخذ مالا تستحق، أو تقصر في الإنتاج، أو تضيع الوقت أو تتمارض، فتأكل مالا بالباطل، فالقناعة بالرزق الحلال، والتعفف عن الحرام، وخشية الله تعالى، تخلص الإنسان من عبودية المال إلى عبودية الله عز وجل. قال صلى الله عليه وسلم : >من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة< ابن ماجة.
وميادين العمل وكسب الرزق الحلال كثيرة، فبالعمل والكد يتفاضل الناس في الحياة، سواء كان العمل بدنيا أو ذهنيا، ففلاحة الأرض وزارعتها والعناية بها، هي مصدر الحصول على قوت الإنسان وعلف الحيوان والتجارة البعيدة عن الغش والتدليس والربا والاحتكار، طريق لكسب المال الحلال. وكما أمر الإسلام بتحصيل الرزق عن طريق الفلاحة والتجارة، أمر بتحصيله عن طريق الصناعة والحرف والمهن المختلفة كالنجارة والحدادة والبناء وغيرها.
وبعد، فإن العمل إما أن يتصف بصفة الصلاح، يجلب لصاحبه الخير والرزق الحلال، ويدفع عنه الشر والكسب الحرام، فهو طاعة لله تعالى والتزام بشرعه، وإما أن يتصف بصفة السوء، فصاحبه يكسب به الحرام، وهو محاربة لله تعالى، وخروج عن منهجه القويم. قال تعالى: { ومن يَعْشُ عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين، وإنهم ليصدونهم عن السبيل، ويحسبون أنهم مهتدون} الزخرف: 35-36.
< ذ. حسني أحمد عاشور