دروس من سيرة المصطفى : دلالة حلف الفضول ومدى إمكانية تطبيقه


قال مُحَمَّد الغزالي رحمه اللَّه تعالى:

>أما حلف الفضول فهو دلالة على أن الحياة مهما اسْوَدَّتْ صحائفها، وكَلَحَتْ شرورها، فلن تَخْلُو من نفوس تهُزُّها معاني النُّبْل، وتَسْتَجِيشُها إلى البِرِّ والنَّجْدَةِ.

ففي الجاهلية الغافلة نهض رجالٌ مِنْ أولي الخير، وتواثقوا بينهم على إقرار العدالة، وحَرْب المظالم، وتجديد ما اندرس من هذه المعاني في أرْضِ الحَرَمِ.(1)

أمثال هؤلاء الناس المحبين للخير، الكارهين للشر، لا يخلو منهم عَصْرٌ ولا مِصْرٌ، والحكيم مَنْ عَرَف كيف يستثمر نوازع الخير ضد نوازع الظلم والطغيان، ويؤلف بين القلوب المستعدة للتواثق على منازلة الشر والفساد ومجابهة عُتُوِّه وكبريائه بالمكابح الرَّادعة.

والمستفادات من هذا الحلف كثيرة منها:

1) أن التعاقُدَ مع غير المسلمين لمواجهة ظلم أو عُنْصريةٍ أو حِصَارٍ، جائز، وكذلك الشأن بالنسبة لمواجهة كوارث مَرَضية، أو انحرافات إنسانية، بشرطين:

أ – أن يكون ذلك التعاقد فيه مصلحة للمسلمين في الحاضر والمستقبل.

ب – ألاَّ يكون مُوَجَّهاً ضدَّ مسلمين آخرين -مهما كان الاختلاف معهم- فالاختلاف لا يسوِّغ التحالف ضدهم.(2)

فالاستعداد من الرَّسُول صلى الله عليه وسلم للاستجابة -بعد الإسلام- لمن ناداه بهذا الحلف خَيْرُ دليل على أن الإسلام جاء بإقامة الحق ونصرة المظلومين، إِذْ وظيفة الإسلام الكبرى محاربة البغي في سياسات الأمم، وفي صِلاَتِ الأفراد على حَدٍّ سواء.

2) إن ذلك الحلف كان لازما لاستقرار الأمن النفسي والتجاري في بلد يفيء إليه العرب من كل فج عميق للحج وتبادُل المنافع، فلا يعقل أن يكون الأمن مختلاً في بلد تهفو إليه القلوب، ويُعقد فيه أكبرُ تجمُّع عربي سنوي، ولهذا هيأ اللَّه تعالى الأسر الشريفة ليقوموا بمهمة المحافظة على الأمن إلى حين مجيء الإسلام الذي سيتولى حماية الحقوق في بيتٍ جعله اللَّه تعالى مثابة للناس وأمنا. قال تعالى: {وإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً}(البقرة : 124) {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَما آمِناً تُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}(القصص : 57) {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً}(آل عمران : 97) بَيْتٌ بهذه المثابة وهذه المكانة لا يمكن أن يتركه اللَّه تعالى نهباً للمجرمين، ومَرْتَعاً للسفهاء، خصوصاً وأن اللَّه تعالى حماه بنفسه من كل انتهاك لحرمته، أواعتداء على وظيفته أو رَمْزِيَّته المقدسة، فمسخ اللَّه تعالى إسافاً ونائلة لما فَجَرَا بالبَيْتِ، وأهلك أبرهة لما أراد التعدِّي على البيت بهدمه وإزالة رمزيَّتِهِ ومَثَابَتِهِ للناس. فوجود هيئة تنتَصِب من تلقاء نفسها لحماية الأمن وصَوْن الحقوق كان ضروريا لفرض احترام القوانين المتعارف عليها منذ تأسيس البيت وإقبال الناس عليه. وهذه الهيئة المصغرة تشبه إلى حد كبير ما يُعرف في عصرنا بـ>مجلس الأمن< الذي انتدَبَ نفسه للسهر على سيادة الأمن في العالم وحمايته من تعدي الأقوياء على الضعفاء، إلا أن هذه الغاية الشريفة تحتاج إلى شرفاء، ولا شرف في القلوب الفارغة من الإِيمَان.

يكتبها :

ذ. المفضل فلواتي

———

1- فقه السيرة للغزالي ص 75.

2- الأَسَاس في السنة وفقهها (السيرة) 1/171.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>