دروس من سيرة المصطفى : فوائد حول شق الصدر


المعروف أن شَقَّ الصَّدْرِ ثَبَتَ وتَكَرَّر فما فائدة هذا الشق؟؟

حاول العلماء وكُتَّاب فقه السيرة أن يستنبطوا فوائد وحكما من هذا الشق نُجْمِلُهُ فيمايلي:

< متابعة الترقي والتفرغ لتطهير العامة :

قال مُحَمَّد الغزالي: وشيء واحد هو الذي نستطيع اسْتِنْتَاجه من الآثار المروية، أن بشراً ممتازاً كمُحَمَّدٍ لا تدعه العِنَايَة غَرَضاً للوَسَاوِس الصغيرة التي تناوش غَيْره من الناس، فإذا كانت للشَّرِ مَوْجاتٌ تملأ الآفاق، وهناك قلوبٌ تُسْرِع إلى التقاطها والتأثر بها فقلوب النبيئين -بِتَوَلِّي اللَّهِ لها- لا تَسْتَقْبِل هذه التِّيَاراتِ الخَبِيثَةَ ولا تهتزُّ لها، وبذلك يكون جُهد النبيئين في: >مُتَابَعَةِ التَّرَقِّي< لا في >مُقَاوَمَةَ التَّدَلِّي< وفي: >تَطْهير العَامَّةِ مِنَ الْمُنْكَرِ< لا في >التَّطَهُّرِ مِنْهُ< فقد عافاهم اللَّه من لَوْثَاتِهِ.(1)

< التهْيِيءُ للعصمة والوَحْي :

قال مُحَمَّد سعيد رمضان البوطي: وليست الحكمة من حادثة شق الصدر -واللَّه أعلم- استئصال غُدَّةِ الشر في جِسْم رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إِذْ لَوْ كان الشر مَنْبَعُه غُدَّة في الجسم أو عَلَقة في بعض أنْحَائِهِ لَأَمكن أن يصبح الشِّرِّير خَيِّراً بِعَمَلِيَّةٍ جراحية. ولكن يَبْدو أن الحكمة هي إِعْلاَنُ أمْرِ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وتَهْيِيئُه للعصمة والوَحْي مُنْذُ صغره بوسائل مادية، ليكون ذلك أقرب إلى إيمان الناس به، وتصديقهم برسالته. إنَّها إذَنْ عَمَلِيَّةُ تطهير معنوي، ولكنها اتخذتْ هذا الشكل المادِّيَّ الحِسِّيَّ، ليكون في ذلك الإعْلانُ الإلهيُّ بين أسماع الناس وأبصارهم.(2)

< إبقاء قلب مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم على حَالة خاصة من النقاء والصفاء :

قال سعيد حوى: لقد ذكر العلماء أن هناك قَلْباً حِسِّيّاً للإنسان يرتبط -نَوْعَ ارتباط- بالقَلْبُ الذي هو مَحَلُّ الكُفْر والإِيمَان، ومَحَلُّ الرجاء والخوف والحب والبُغْض، ولاشكَّ أن الشَّقَّ الحسِّيَّ اسْتَهْدَفَ القَلْبَ الثانيَ الذي هو غَيْبٌ من الغُيوب، وإن كَان بَعْضُ ما يَجْري فيه وعليه مُحَسّاً من الإنسان، هذا القلب يَمْرَض، وتتراكم عليه تراكمات، وتَطْرأ عليه الحُجُب.

وتكَرُّرُ حادثة الشَّقّ قبل النبوة، أي قبل التكليف، فيه إشارةٌ إلى إرادة اللَّه -عز وجل- في أن يَبْقَى قَلْبُ مُحَمَّد على حالة خاصَّةٍ استصْلاحاً وإعداداً. وهذا يُفيدُ أنَّهُ حتى أَطْهَر القلوب يحتاجُ إلى شيء من عالم الأسباب ليبْقَى على صَفَاءٍ ونَقَاءٍ. وتكرُّرُ الحادثة قُبَيْل الإسراء والمعراج فيه إشارة إلى أن بعض مقامات القلوب يحتاج إلى مزيد من الصفاء القلبي(3)

< تحصين قلب الرسول صلى الله عليه وسلم من التأثر بالمحيط :

قال د. الشاهد البوشيخي: >إن حادثة شق الصدر من أكبر التحضيرات لرَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقد نُزِع من صدره في وقت مُبَكِّرٍ أصْلُ الغِلِّ، وأُخْرج من قلبه حظُّ الشيطان، فصار طاهراً مطهَّراً، غَيْر قابِلٍ لِأَنْ تؤثِّرَ فيه البيئةُ والمحيطُ أثراً غير صالح، إِذْ لم يَعُدْ موجوداً فِيه مَا بِهِ تَحْصُل الاستجابة لذلك والتجاوب معه، فَنَمَا زَكِيّاً، وترعْرَعَ نقِيّاً لتَلَقِّي الحَقِّ، حَتَّى جَاءَهُ الحقُّ، وَهُوَ أكْثَرُ ما يَكُونُ اسْتِعْدَاداً.<(4)

وقال السُّهَيْلي موضِّحاً المعاني السابقة بأسلوب إيمانيٍّ عميق:

>إن التقديس والتطهير وقع مرتين :

الأولى : في حال الطفوليَّةِ ليُنَقَّى قلبُه من مَغْمَز الشيطان، ويُقَدَّسَ من كُلِّ خُلُقٍ ذميم، حتى لا يتلبَّسَ بشيء مِمَّا يُعابُ على الرجال، وحتى لا يكون في قلبه شيءٌ إلا التوحيد والإخلاص. ولذلك قال: (فولَّيَا عني -يَعْنِي الْمَلَكَيْن- وكَأني أُعَاينُ الأمْرَ مُعَاينة).

وكان الغسْل بالثلج لِمَا يُشْعِرُه الثلجُ من ثَلْج الْيَقِين وبَرْده على الفؤاد.

والثانية : في حال الاكتهال، وبَعْدَما نُبِّئَ، وعندما أرَادَ اللَّهُ أنْ يَرْفَعَهُ إلى الْحَضْرة الْمُقَدَّسَةِ التي لا يَصْعَدُ إلَيْها إلاَّ مُقَدَّسٌ، وعُرِجَ به هناك لتُفْرَضَ عليه الصلاة، ومن شَأْن الصَّلاَة الطهور، فَقُدِّس ظاهراً وباطناً، وغُسِل بِمَاءِ زَمْزَم التي هي هَزْمَةُ روح القُدُس، وهَمْزَةُ عَقِبِهِ لأبيه اسماعيل \ وجيء بطَسْتٍ مُمْتَلِئٍ حِكمةً وإيماناً، فأُفْرِغ في قَلْبِهِ -وقدْ كان مومناً- ولكن اللَّه تعالى قال: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ}(الفتح : 1) وقال: {وَيَزْدَادَ الذِينََ آمَنُوا إِيمَاناً}(المدثر : 31).

يكتبها : ذ. المفضل فلواتي

——-

1- فقه السيرة للغزالي، ص 64.

2- فقه السيرة للبوطي، ص 47.

3- الأَسَاس في السنة وفقهها 1/167.

4- خلاصة السيرة النبوية لابن هشام. جريدة المحجة عدد 7 ص 5.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>