5- أبعاد الاقتصاد الاسلامي ونطاقه
للمنظومة الاقتصادية الإسلامية عدّة أبعاد. وهذه الأبعاد هي التي تحدد نطاق وموضوع علم الاقتصاد الاسلامي، فهناك بعد ايماني تعبدي وبعد تعاملي علائقي وأخلاقي وبعد بيئي.
ُفإذا كان البعد الإيماني التعبدي يعطي للنشاط الاقتصادي عُمقاً وأرضية بعيدة المدى، يتجسدان في التسليم المطلق والانقياد التام للارادة الربّانية، لله سبحانه وتعالى، فإن البعد التعاملي العلائقي والأخلاقي يحدد بالأساس طبيعة العلاقة بين الأشخاص وبين الفرد والجماعة (المجتمع). في حين أن البعد البيئي يؤسس العلاقة بين الإنسان والبيئة في كلّيتها. وطبعاً كلّ هذه الأبعاد تنبني على عقيدة التوحيد. ومن المعلوم أن الاسلام دين شامل كامل متكامل لا يقبل التجزيء أو الانقسام. وبذلك تكون مشيئة الله على الدوام حاضرة في الاعتبار، مادامت الأسباب كلها من الله والنتائج كلها إلى الله. وهذا ما أكّده ابن تيمية في كتاب مجموع الفتاوى، عندما تطرق لإشكالية تقلب الاسعار ارتفاعاً وانخفاضاً حيث قال : >(…) الغلاء بارتفاع الأسعار والرخص بانخفاضها هما من جملة الحوادث التي لا خالق لها إلا الله، ولا يكون شيء منها إلاّ بمشيئة الله وقدرته، ولكن هو سبحانه جعل ارتفاع الأسعار قد يكون بسبب ظلم العباد، وانخفاضها قد يكون بسبب إحسان بعض الناس<.
وإضافة للأسباب والنتائج هناك إشكالية الابتلاء والفتنة، وهما حقيقتان من حقائق الحياة، وبالتالي يشكلان جانباً هاماً من جوانب البعد الإيماني-التعبدي. إن المعاملات الاقتصادية في الإسلام تقوم على أساس أن العلاقة بين الفرد والمجتمع علاقة تأثيرية متبادلة. قال تعالى في سورة الزخرف : {ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتّخذ بعضهم بعضا سُخريّا..} وهذه الآيات تحيلنا إلى التسخير التبادلي. فالفرد لا ينفصل عن الجماعة، ولا تقوم الجماعة إلاّ بالأفراد المكوّنين لها. وبهذا المنظور لا تكون الجماعة هي “الكل” المجرد كما تصفها ا لنظريات الوضعية الشخصية المعنوية، وإنّما هذا “الكلّ” (مجموع أفراد الجماعة) في نظر الاسلام هو أفراد بذواتهم لهم وجودهم الحقيقي الفعلي، لذلك اهتمّ الإسلام بصلة الأرحام ورعاية الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل، وجعل للفقير حقاً معلوماً في المال وهو الزكاة التي هي فريضة تعبدية. كما ضمن الطابع الأخلاقي للاقتصاد -حيث جعله يقوم على العدل والرحمة والتراحم والمروءة والاحسان، بعد نهيه عن الغش والاحتكار والجشع والتدليس وتطفيف الميزان والربا وأكل أموال الناس بالباطل.
وما يميز بالأساس الفكر الوضعي عن الفكر الاسلامي، في هذا المجال كون الأول يجزّئ الانسان، وكل جزء من أجزائه يضطلع به علم من العلوم الإنسانية، فعالم الاقتصاد مثلا لا يعير الاهتمام للقيم الاجتماعية أو الأخلاقية، وعالم النفس لا يقيم اعتباراً للجانب الاقتصادي وهكذا دواليك. لذا فإن نموذج الانسان من وجهة نظر الفكر الوضعي هو الانسان الاقتصادي الذي لا يعير اهتماماً للقيم الدينية أو الأخلاقية لأن ما يهمه هو إشباع جملة من الرغبات والحاجات غالباً ما تكون وهمية وكاذبة، وفي هذا تجاهل لحقيقة الإنسان الذي هو نسق متكامل وكامل من الحاجات والقيم، أي أنّه جسد وروح، وبالضبط هنا يكمن خلل المذاهب الوضعية، والذي يتمثل في تجاهلها لحقيقة الانسان كنسق حاجة وقيمة في آن واحد، سواء منها المذاهب الفردانية التي تسخّر المجتمع لصالح الفرد، أو المذاهب الجماعية التي تسخّر الفرد للمجتمع، في حين أن النظرة الإسلامية إلى الفرد نظرة تكاملية كنسق حاجة وقيمة إنّها تقوم على التسخير التبادلي لضمان التكاملية. لأن وجود الفرد ووجود المجتمع في منظور الإسلام متلازمان، ولا يمكن تصور حاجة بلا قيمة تحقق الوفاء بها، ولا وجود لقيمة بلا حاجة إليها.
إن البيئة تزود الانسان بمقوّمات الحياة وعوامل البقاء. والإنسان في حاجة إلى البيئة الطبيعية، وهذه الأخيرة تحتاج أيضا إلى الانسان، لكن البيئة الطبيعية مسخّرة للانسان وليس الانسان مسخّراً للبيئة، مادام التسخير يفترض توفر الوعي لدى المسخر له.
ففي نظر الإسلام تكون العلاقة بين الانسان والبيئة بالضرورة علاقة توازن، إنها علاقة توازنية بالضرورة وليست علاقة تناقض أو صراع كما يراها الفكر الوضعي المؤسس على نظرة اختلالية لعلاقة الفرد بالجماعة أو علاقة الذات بالموضوع.
انطلاقاً من هذه النظرة، على البيئة الطبيعية توفير للانسان كل ما يحتاج إليه لإشباع حاجاته ورغباته التي لا حدود لها دون أن يلتزم الانسان نحوالبيئة بأية قواعد أو التزامات. وأوّل ما ترتّب على هذه النظرة فكرة النذرة التي هي محور النظرية الاقتصادية الوضعية. ألمْ يُعْرّف الوضعيون علم الاقتصاد بأنه علم الندرة، حين جعل رغبات الإنسان اللانهائية واللامحدودة تتصادم مع الموارد الطبيعية والاقتصادية المحدودة، وهذا يعبّر بجلاء على قمّة الاختلال المستديم. فهل تستقيم الأمور إن هي كانت مؤسسة على الدوام على اختلال؟! وهنا تكمن مصائب النظريات الوضعية، إنّه مكمن كلّ المعضلات المجتمعية. وهذا ما تتلافاه النظرة الاسلامية للاقتصاد عندما تعتبر أن الكون مسخّر للانسان المالك للوعي بهذا التسخير، وبذلك يكون ملزماً بواجبات إزاء هذا الكون. حيث عليه أن لا يفسد في الأرض ولا يهلك الحرث والنسل، وأن يوجّه نشاطه وفعله نحو إنتاج الطيّبات لا الخبائث. والوعي بالتسخير، فالله سبحانه وتعالى سخّر الكون للانسان لكي يقوم بدوره في الحياة وبمهمّته في الكون، وهي الاصلاح وعمارة الأرض في إطار تجسيد الغاية من خلقه وهي عبادة الله.
وهذا مايضمن علاقة التوازن بين الانسان والبيئة.
إدريس ولد القابلة
-يتبع-