يظهر أن الكتابة الإسلامية حول الإنسان في المرحلة الراهنة فعل لإعادة تأسيس القول حول هويته وماهيته ووجوده ومقاصد خلقه..، كل ذلك من داخل خطاب القرآن الكريم تصحيحا للمفاهيم وترشيداً للفهم، بعدما غزا خطاب التغريب ثقافة غالبية المسلمين. من هنا أهمية تقديم هذا الكتاب الموسوم بـ(حديث القرآن عن الإنسان) لفضيلة الأستاذ العلامة عبد الحي عمور، أحد الأساتذة السابقين بجامع القرويين بالمغرب، وأحد المهتمين والمنشغلين والمشتغلين بقضايا التربية والتعليم ومباحث مختلفة في اللغة والفقه والفكر.
يقول الأستاذ عبد الحي عمور في تمهيد الكتاب : ” تؤكد الدراسات التي اهتمت بقضايا الأمة الإسلامية وشؤونها، أن أزمتها الكبرى التي تحتاج إلى إصلاح وعلاج، هي أزمة فكرية علمية وثقافية، مع إبراز ما قد تنطوي عليه نظريات الغربيين المادية، من خطورة، من حيث أنها قد لا تتفق مع سلامة الاعتقاد ووحدة الحقيقة، واعتماد الوحي مصدراً أساسيا من مصادر المعارف والعلوم (…) واعتبار العقل سبيل الإنسان إلى إدراك تلك المفاهيم (…) كما يعتقد الغربيون ودعاة العلمانية الذين غالوا في هذا الاتجاه (ص5)”.
بعد التمهيد ناقش المؤلف قضية محورية الإنسان في الخطاب القرآني، يقول بخصوص هذه النقطة : ” والقرآن معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم الباقية، وقد أودع الله تعالى فيه من الأحكام التشريعية والمعاني العقلية، والإشارات إلى الحقائق العلمية ما لا يستوعبه عقل عالم ولا علم جيل من الأجيال، حتى تبقى مساهمات الجميع غيضا من فيض، وجواهر متناثرة من كنز لا ينفد، لا يلغي بعضها بعضا، ولا ينتقص من قيمتها، ومهما تحدث المتحدثون، وبرع في توضيح معانيه المفسرون، فإن ذلك لن يغيب عنا أنوارها المتلألئة، التي تصل إلى القلوب المؤمنة الواعية، صافية نقية، وإنه لمن المفيد والضروري لفائدة المسلمين ألا تتوقف أفهامهم وتجمد عقولهم عند فهم جيل من العلماء أو نخبة من الفقهاء، مهما عظم شأنهم في سبر أغوار القرآن، واستلهام المزيد من آياته وسوره؛ بل الواجب يقتضي استمرار البحث فيه، مع تطوير مناهج دراسته في ارتكاز على علومه ومعارفه، بما يجعلها تتفاعل معه وتستلهم منه مزيداً من الإفادة والإثراء” (ص 16-17).
وسيرا في اتجاه تبيان محورية الإنسان في الخطاب القرآني، تحدث المؤلف عن ضرورة استكشاف المزيد من أسرار القرآن الكريم وعلومه، باعتباره مجالاً خصبا ورحبا لاستثارة مخزونه المعرفي، فيما يتعلق بمختلف العلوم الكونية والاجتماعية والإنسانية، وربطها -دونما تعسف أو اعتقاد- بالعلوم الشرعية، لحمل الإنسان المؤمن المسلم على العيش وفق تشريعاته وعلومه كلاعقديا وسلوكيا واجتماعيا، لا انفصام بينها، ويشير المؤلف إلى عدم اقتصار اهتمام القرآن الكريم بالإنسان كفرد فقط، بقدر ما وازن في خطابه التربوي والتشريعي بين الفرد والجماعة، انطلاقا من واقعيته؛ فلا واحدية تكرس الفردية ولا طبقية تستأثر بالقرار وتخلق بين الفرد والجماعة التنازع والتنافر، ولكنه خطاب للطرفين معا.
لقد حاول المؤلف في القسم الأول من هذا الكتاب القيم المشبع بنظرية خاصة في التحليل والرؤية، التطرق إلى حقيقة الإنسان في القرآن الكريم، فتحدث عن الخلق والتكوين، ورد على نظرية الانتخاب الطبيعي والارتقاء العفوي التي تقول بها النظرية الداروينية، ثم تحدث عن خلق الله عز وجل للإنسان في أحسن تقويم، وبعدها عن قضية استخلاف الإنسان في الأرض وعلاقته بالإيمان والعمل الصالح والالتزام بالضوابط والاحتكام للشريعة الربانية، كما تحدث عن أثر الفطرة في اهتداء الإنسان للخالق الكريم جل جلاله باعتبارها تلك النفحة الربانية التي أودعها فيه أول مرة. وقد تدرج المؤلف، وهو يتحدث عن قضية الخلق، ليصل إلى مناقشة نظرية التفريق بين آدم والبشر التي قال بها الدكتور عبد الصبور شاهين صاحب مؤلف (أبي آدم).
وإلى جانب ما سلف، تضمن هذا القسم استعراضا لتكريم الإنسان بالعقل، بالإضافة إلى تكريمه بالنطق والتمييز وتسخير النواميس الكونية له، وجعلها موافقة لطبيعته البشرية، كما أنه تميز بتركيبة الاستعدادات والقوى المساعدة على العيش واستعمار ما في الأرض، كما استعرض المؤلف في هذا القسم قضية أمانة الإنسان وتعهده بتحملها : أمانة التكليف والطاعة وقبول الأوامر والنواهي،من هنا يبين المؤلف مفهوم المسؤولية وعلاقتها بالأمانة والتكليف، فقد جعلها الله عز وجل شاملة لكل فرد من أفراد المجتمع، بحيث يكون مسؤولاً عن كل جانب من جوانبه يتقدم به وتتحقق معه العدالة وتحترم الحقوق.
بعد هذا تحدث المؤلف بإيجاز عن ميلاد الإنسان وفطرته، مبينا هذا الشعور الدفين المتأصل في صلبه وقدراته العقلية ومشاعره، تلك التي تتجدد في الإنسان من حين لآخر وتظهر إذا ما اعتمد في تربيته على المبادئ الإسلامية الحقة. وإلى جانب هذا ناقش المؤلف قضية تعلم الإنسان وسنن الكون في القرآن التي منها سنة المدافعة وسنة التداول الحضاري وسنة الابتلاء. كما تحدث عن أثر بعثة الأنبياء والرسل في هداية الإنسان، وتخصيص هذا الأخير بالرسالة والنبوة، وضرورة العقيدة والشريعة بالنسبة لحياته، مبينا بعض أوجه وخصائص شريعة القرآن الكريم، كما تحدث المؤلف في هذا القسم عن حرية الاختيار والاعتقاد، وعن طوائف البشر من حيث العقيدة والديانة في القرآن الكريم، وعن مجموعة من الضوابط والقيم التي ضمنتها شريعة القرآن الكريم للإنسان، وحرصت على تربيته عليها، واعتبرتها جزء من إنسانيته، كحقالشورى وحق المناصحة وحق الحسبة وحق الاستمتاع بالطيبات من الحياة..، وكل ذلك في إطار منظومة نسقية من الأخلاق المكونة للشخصية المتزنة في الإسلام.
وقد ختم المؤلف هذا القسم بفصل تحدث فيه عن العالم الآخر وأثره في صياغة السلوك القويم للإنسان.
في القسم الثاني من هذا الكتاب، خصص المؤلف جملة الحديث حول موضوع تربية الإنسان في القرآن الكريم عرض خلالها نظرية الإسلام للتربية، مسلطا الضوء على الأصول العامة التي قامت عليها تلك التربية والقيم الأخلاقية التي أكد عليها وحرص على طبع سلوكه بها، وبناء شخصيته عليها باعتبارها منهج حياة. وقد أشار في بداية حديثه هذا إلى مفهوم الدين عند المسلمين الذي هو بخلاف المفهوم عند العلمانيين، مع التركيز في القول على النظرية الإسلامية في المجال التربوي التي لا تعني فن التعلم أو بيداغوجية التكوين، ولا هي تلك العلوم النفسية والتربوية الغربية، كما أنها ليست تلك المقررات الدراسية التي تتناول العقائد والعبادات والآداب وما يتصل بها فقط، بقدر ما يقصد بها تلك التشريعات والتعليمات والتوجيهات السماوية التي تنبثق من الإسلام ونظرته الشاملة إلى الكون والإنسان والمجتمع؛ تتقاطع فيه المعرفة بين المجال الذي يرتاد فيه الإنسان بطاقاته العقلية في الآفاق ، ويكتشف الحقائق والأسرار الكونية، وهو مجال الطبيعة الفسيح ومجال آخر( ماوراء الطبيعة) لا قبل للإنسان بمعرفته إلا عن طريق الوحي الإلهي، أي طريق الدين الصحيح. وهناك المجال الذي يكتشف فيه الإنسان حقيقته ووجوده وكيفية معاملته لنفسه وأساليب تنظيم حياته، وارتباطاته مع الأفراد والجماعات، مما يجعله إنسانا متوازنا يعيش في دنياه على بصيرة من أمره دونما تخبط أو إغفال لحقيقة نفسه ومكونات إنسانيته، مما يعرضه للانتكاس والخلل، ويقذف به إلى مهاوي الضلال، وحتى في هذا المجال -كما يقول المؤلف- فإن الإنسان مهما توقد فكره، وانفتح عقله، وتطهرت نفسه، وسمت أخلاقه وتخلص من آثار البيئة على تفكيره وسلوكه وحياته؛ لا يستطيع أن يستغني عن التوجيه الإلهي والهدي النبوي.
وتأسيسا على هذه الرؤية القرآنية الفريدة من نوعها في باب الشرائع تتكون الأصول العامة للنظرية القرّآنية للتربية، والتي تتكون من سبعة أصول، ناقش المؤلف قضاياها في مباحث هذا القسم، وهي تباعا : 1) التربية العقدية 2) تربية روح الإنسان 3) الفطرة 4) التربية الدينية والخلقية 5) مراعاة احتياجات الإنسان المادية والاجتماعية 6) وحدة الإنسانية والمساواة بين البشر 7) وحدة المعرفة.
بعد هذا، انتقل المؤلف إلى عرض بعض معالم المنهج التربوي القرآني، مؤسساً حديثه التأصيلي على نقد خطورة المنهج التربوي الغربي على خلفية تبيان الآثار السلبية للأخذ به في حياتنا. وتأسيسا على ما سبق كذلك ،وقف المؤلف عند المفاهيم والأسس التي يقوم عليها المنهج التربوي الإسلامي انطلاقا من القرآن والسنة، وهي بصفة عامة :
1) التعلم 2) استنهاض العقل والوجدان 3) اعتماد المناقشة والحوار 4) الفهم والاستيعاب قبل التصديق 5) إعمال العقل في التراث.
ومن المبادئ التعليمية العامة التي بينها المؤلف في هذا المحور :
1) خلوص النية في التعلم 2) مسؤولية الحواس 3) استمرار التعلم 4) إجبارية التعلم 5) فضل العلم وتعلمه 6) تكامل العلم والإيمان.
وقد ختم المؤلف هذا القسم بمبحث استعرض من خلاله نظرية الغربيين إلى التربية التي انعكست عليها المذاهب الفلسفية المادية واعتمدت العقل مصدراً وحيداً لها فحفلت -نتيجة ذلك- بالعديد من النقائض والنقائص، وعلى الرغم من ذلك، ذهب المؤلف إلى إمكان الاستفادة مما حققته من إنجازات وابتداعات، مع مراعاة تكييف بعضها أحيانا بما يناسب شخصيتنا وهويتنا كعرب ومسلمين.
خاتمة
لقد حاولنا من خلال هذا العرض الموجز لكتاب الأستاذ عبد الحي عمور حول (حديث القرآن عن الإنسان)، الإسهام في التعريف بأحد الكتب الجديرة بالقراءة والمتابعة، لما يحمله، بداخل متنه، من فهم مستنير يجمع بين رؤية العالم المتخرج من حقل الدراسات القرآنية ورؤية المنتمي إلى عصره بكل وجوده، الراغب في الإسهام في تصحيح مسالك رؤية ما هوية الإنسان في عالم طغت فيه الثقافة المادية التي حطمت جانب الآدمية في هذا الإنسان، وكل ذلك من داخل الخطاب القرآني الذي هو أساس الانطلاقة باتجاه التصحيح والترشيد والهداية مصداقا لقوله تعالى : {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} ، وقوله جل وعلا :{ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين } (النحل/89)..
إعداد : ذ. عبد العزيز انميزات