فضاءات دعوية : توسيع القاعدة الصلبة (2)


إذا تتبعنا مسيرة الجماعة الأولى -جماعة الرسول صلى الله عليه وسلم- نجد أن الدعوة منذ أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالجهر بها(1)، قد وجهت لكل الناس، ولكن التركيز -بعد الهجرة- كان واقعاً على أهل المدينة، الذين سارعوا إلى الاستجابة، والذين قام عليه الصلاة والسلام بتربيتهم بمعاونة القاعدة الصلبة من المهاجرين والأنصار، ا لذين صاروا الآن هم الدعاة وهم الموجهين، وهم المربين، تحت إشراف المربي الأعظم صلى الله عليه وسلم. وأهل المدينة هؤلاء هم الذين جاهدوا وثبتوا وصبروا على تكاليف الجهاد، وكانوا -مع المهاجرين والأنصار- هم الركيزة الحقيقية للدعوة في كل أطوارها المقبلة، بينما تأخر التوجه إلى الفئتين الأخريين إلى مرحلة تالية.. وهذا هو الأمر المنطقي مع سير الدعوة، ومع حقيقة المعركة، وطبيعة الصراع.

إن الصراع بين الحق والباطل لابد أن يقع -سنة من سنن الله- منذ اللحظة التي يوجد فيها للحق رجال يؤمنون به ويعملون على نشره وتمكينه في الأرض. فالجاهلية لا يمكن -بحال من الأحوال- أن تصبر على دعوة الحق، ولا أن تهادنها، ولو لم تتعرض لها الدعوة على الإطلاق : {وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرْسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكيمن، قال الملأ الذين استكبروا من قومِه لنُخْرجنّك يا شعيبُ والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعُودن في ملّتنا}(الأعراف : 87- 88).

هكذا! لا مهادنة، ولا صبر حتى يحكم الله بما يشاء! وإنما عدوان وإخراج،  ومطاردة وإيذاء! فمن الذي يستجيب للدعوة في المراحل الأولى من ذلك الصراع الذي يدور بين الحق والباطل؟ أيستجيب الذين يبحثون عن المصالح الدنيوية، ويحسبون حساب الأرباح والخسائر بمقياس تلك المصالح؟ أيستجيب الذين ينقادون بطبيعة تركيبهم النفسي للأمر الواقع، ولو عرفوا ما فيه من السوء، ولا يتجهون إلى الأمر الذي يجب أن يقع، ولو عرفوا أنه خير من واقعهم الذي يعيشون فيه، لأنه يحتاج في تحقيقه إلى جهد، وهم لا يحبون بذل الجهد… ويعرضهم للأخطار، وهم لا يحبون أن يتعرضوا للأخطار؟!

إنما يستجيب في المراحل الأولى من الصراع، الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر.. الذين يحسبون الكسب والخسارة بالميزان الرباني، لا بالميزان الأرضي الذي تزن به الجاهلية، ولا تعرف ميزاناً سواه : {لقد أرْسلْنا رُسلنا بالبيّنات وأنزلْنا معهم الكتاب والميزان ليقُوم النّاس بالقِسط}(الحديد : 25).

الميزان الذي يقول : متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى : {قُل متاع الدّنيا قليل والآخرة خيرُ لمن اتّقَى ولا تُظْلمون فتيلاً}(النساء : 77).

الميزان الذي يقول : إن كل ما في الأرض من متاع ومصالح وروابط لا يعدل حب الله ورسوله والجهاد في سبيله : {قُل إن كان آباؤكم وأبْناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفْتُموها وتجَارة تخْشون كسَادَها ومساكِن ترضَوْنها أحبّ إلَيْكم من اللّه ورسوله وجهادٍ في سبيله فتَربَّصُوا حتى يأتي الله بأمرِه والله لا يَهْدِي القومَ الفَاسِقِين}(التوبة : 24).

الميزان الذي يقول : إن الباقيات الصالحات خير من كل زينة الحياة الدنيا : {المالُ والبنُون زينة الحياة الدّنيا والباقِيات الصالحاتُ خيرُ عند ربّك ثواباً وخيرٌ أملاً}(الكهف : 46).

والذي يقول : إن التجارة الرابحة -التي تنجي من عذاب الله- هي الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيل الله : {يأيّها الذين آمنُوا هل أدُلُّكم على تجارة تُنْجيكم من عذاب أليم، تؤمنون بالله ورسُوله وتُجاهِدون في سبِيل الله بأموالِكم وأنْفُسِكم ذَلِكُم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون، يغْفِر لكُم ذُنُوبَكم ويُدخِلكم جنّاتٍ تجْرِي من تحْتِها الأنهار ومسَاكِن طيِّبةً في جنّاتِ عَدْنٍ ذلك الفوْزُ العظيم، وأُخرى تحبُّونها نصرٌ من اللّه وفتح قريبٌ وبشِّر المؤمنين}(الصف : 10- 13).

والمراحل الأولى من الدعوة هي مراحل البذل والفداء، ولذلك لا يصلح لها الذين يبحثون عن مكاسب الأرض، سواء المال والثروة والمتاع الحسي، أو الوجاهة والبروز والأتباع والأنصار.. هؤلاء لا يصلحون مؤسسين في القاعدة الصلبة، ولا تتسع بهم القاعدة حين يأتي أوان التوسيع!

üüüüü

إذا نظرنا إلى واقعنا المعاصر فينبغي أن نجعل في بالنا عدة أمور، سواء بالنسبة للقاعدة الصلبة، أو القاعدة الموسعة، بل حتى بالنسبة للجماهير العريضة التي تدخل أفواجاً في النهاية، فهؤلاء أيضاً لابد أن يصحح لهم إسلامهم، ولا يُتركون بلا ضابط كما تفعل الجاهلية المعاصرة “برجل الشارع”، تسلبه كيانه الآدمي، وتوهمه في الوقت ذاته أنه أحد العمد التي يقوم عليها النظام!

ليس في الإسلام “رجل شارع”، ولا “امرأةشارع”، إنما هناك مسلون ومسلمات ملتزمون كلهم -أو يجب أن يكونوا ملتزمين- بالحد الأدنى على الأقل، الذي يجعلهم في ميزان الله مسلمين، وتلك في الدولة الإسلامية مهمة ولى الأمر، فمن التزم من تلقاء نفسه فقد وفّى بما يجب عليه تجاه ربه، ومن لم يلتزم يلزمه السلطان كما قال عثمان رضي الله عنه : >يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن<.

ومن ثم فكل الناس داخل في مجال الدعوة، ولكن خطوة بعد خطوة، كما كان الشأن مع الجماعة الأولى، حسب السنن الربانية التي تتكرر كلما تكررت ظروفها ومقتضياتها.

ذ. محمد قطب

—–

(1) قال تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم : {فاصدع بما تومر، وأعرض عن المشركين}(الحجر : 94).

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>