دروس من سيرة المصطفى


الإيواء الرباني

1- اسم مُحَمَّد من أعلام نبوة المصطفى

اسم >مُحَمَّد< كان قليل الشيوع بين العرب، فهو اسْمٌ منقول من صفة، فكما تصف شخصاً بأنه كريم مثلا، فكذلك يسمي الناس بعض الأشخاص بـ>كريم<، وقد يكون من أبْخَلِ الناس. واسم >مُحَمَّد< معناه: محمود، ولكن يزيد على >محمود< بالمبالغة والتكرار، فالمُحَمَّدُ هو الذي حُمد مرة بعد مرة، كما أن الـمُكَرَّم هو من أُكْرم مرة بعد مرة.

واسم مُحَمَّد مطابق لمعناه، واللَّه سبحانه وتعالى سماه به قبل أن يسمي به نفسه، فهذا عَلَمٌ من أعلام نبوته، إِذْ كان اسمه صادقا عليه، فهو صلى الله عليه وسلم محمودٌ في الدنيا بما هَدَى إليه ونفع من العلم والحكمة، وهو محمود في الآخرة بالشفاعة، فقد تكرَّر معنى الحمد كما يقتضي اللفظ.

ثم إنه لم يكن مُحَمَّداً حتى كان أَحْمَدَ، حَمد ربَّه فَنَبَّأه وشرفه، فلذلك تقدم اسم أَحْمَدَ على الاسم الذي هو مُحَمَّد. فبأَحْمَدَ ذُكر قبل أن يُذكَر بمُحَمَّد، لأن حَمْدَه لربه كان قبل حَمْدِ الناس له، فَلَمَّا وُجِد وبُعث، كان مُحَمَّداً بالفعل.

فلا عجب أن تنزل عليه سورة >الحمد< من دون الأنبياء، وأن يُخَص كذلك بلواء الحمد، وبالمقام المحمود. ولا عجب أن يُشْرَعَ لنا سُنَّةُ الحمد عند اختتام الأعمال، فنقول: الحمد للَّه عند نهاية الأكل والشرب، وعند انتهاء السفر، فكأنَّ اسْمَهُ صلى الله عليه وسلم المشتق من الحمد المشروع عند الختام مُوذِنٌ بانقضاء الرسالة، ونذير بقرب الساعة، وفي ذلك برهان عظيم، وعلم واضح على نبوته، وتخصيص اللَّه تعالى له بكرامته.(1)

قال مُحَمَّد الغزالي رحمه اللَّه تعالى : ومن الموافقات الجميلة أن يُلْهَم >عبد المطلب< تسمية(2) حفيده >مُحَمَّداً< إنها تسمية أعَانَه عليها مَلَكٌ كريم، ولم يكن العرب يألَفُون هذه الأعلام، لذلك سألوه: لِمَ رغب عن أسماء آبائه، فأجاب: أردتُ أن يَحْمَدُه اللَّه في السَّماء، وأن يحمده الخلْقُ في الأرض، فكأن هذه الإرادة كانت اسْتِشْفافاً للغَيْبِ، فإن أحداً من خَلْق اللَّه لا يستحق إزْجَاء عواطف الشكر والثناء، على ما أسْدَى وأدَّى كما يستحق ذلك النبي العربي المُحَمَّدِ صلى الله عليه وسلم.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رَسُول اللَّهصلى الله عليه وسلم: >أَلاَ تَعْجَبُونَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللَّهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَتَهُمْ؟؟ يَشْتُمون مُذَمَّماً وَأنَا مُحَمَّدٌ<(3)

وكانت مناسبة قول الرَّسُول صلى الله عليه وسلم لهذا الحديث أن زوجة أبي لهب: قالت:

>مُذَمَّماً عَصَيْنَا  < <  وَدِينَهُ قَلَيْنَا<

تهجو الرَّسُول صلى الله عليه وسلم بعد نزول سورة المسد {تَبَّتْ يَدَا…} حيث ظنت أن الرَّسُول هَجَاهَا، وأنَّ ذَلِك من قوله. فردَّتْ على الهجاء -حسب ظنها- بالهجاء، فكان الحديث المذكور مبيِّناً المضمون الدائم لِلْإِسم الشريف وأن اللَّه تعالى جعله محموداًً في الأرض والسَّماء، وفي الأولين والآخرين، وفي الدنيا والأخرى بصفة مستمرة لا يؤثر في ذلك سفاهة السفيهات والسفهاء من أمثال زوجة أبي لهب وأحفادها من المستشرقين والمستغربين، ويكفي في معرفة ذيوع حمده أن ترى معظم دور المسلمين لا يخلو منها اسم >مُحَمَّد< ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: >إذَا سَمَّيْتُمْ الْوَلَدَ >مُحَمَّداً< فَأَكْرِمُوهُ وَوَسِّعُوا لَهُ فِي الْمَجْلِسِ<(4)

2- فوائد الاسترضاع :  الاسترضاع كان معروفا -عند العرب- ولكن الْتِمَاس الأجر على الرضاع لم يكن محموداً عند أكثر نِسَاء العرب، حتى جرى المثل: >تَجُوعُ الحُرَّةُ وَلاَ تَأْكُلُ بِثَدْيَيْهَا< إلاَّ أن البعض منهن -لشدة الحاجة- كان يرى أنه لابأس به، وبذلك أصبح احتراف الإرضاعبأجر متعارفا عليه لعدة فوائد منها:

< سد حاجات بعض الأسر المعوزة وتوسيع دائرة الأسرة عن طريق المشاركة في تكوين بنية أفرادها.

< تفريغ النِسَاء لشؤون الزوج والبيت، وشؤون الاعتناء بصحة المرأة الأم جسديا ونفسيا، ولقد كان عمار بن ياسر -أخ أم سلمة من الرضاعة- ينتزع من أم سلمة بنتها -زينب بنت أبي سلمة- ويقول لها: >دَعِي هَذِهِ المقْبُوحَةَ الْمَشْقُوحَةَ -الْمُبْعَدَة- التي آذَيْتِ بِهَا رَسُولَ اللَّهصلى الله عليه وسلم<.

< كان العرب يحرصون على الإرضاع في البادية لينشأ الطفل في الأَعْراب، فيكون ذلك أفْصَحَ للسانه، وأجْلَدَ لجسمه، وأجْدَرَ ألا يفارق الطفل الهيئة الخشِنَة المطلوبة في السير الجاد، ولقد قال أبو بكر لرَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم: >مَا رَأَيْتُ أَفْصَحَ مِنْك يَارَسُولَ اللَّه<؟! فقال صلى الله عليه وسلم: >وَمَا يَمْنَعُنِي، وَأَنَا مِن قُرَيْشٍ، وأُرْضِعْتُ فِي بَنِي سَعْدٍ<.

ولقد كان الوليد بن عبد الملك بن مروان لَحَّاناً، أي يُكثر من اللَّحْن إذا خطب أو تكلم، فكان أبوه عبد الملك يقول: >أَضَرَّ بِنَا حُبُّ الْوَلِيد< لأنه أقام مع أمه، ولم يخرج للبادية كإخوانه الذِينَ سكنوا البادية فَتَعَرَّبُوا، وأُدِّبُوا فتأدَّبُوا. ومما يؤسف له في هذا الباب أن الغزو الإعلامي الدخيل أفسد الحَضَرَ والمَدَرَ.

< الإرضاع من النجيبات الذكيات يورث النجابة والذكاء كما يورثه دَم النسب، ولقد اختار اللَّه تعالى لنبيه امرأة وسيطة من قبيلة بني سعد المميَّزة بالخصال العديدة ترضعه وتغذيه وترعاه، كما اختار له أشْرف البطون والأنساب. فالرضاع كالنسب يؤدي دوراً في تغيير الطباع. ولهذا جاء في مسند الإمام أَحْمَد عن عائشة -رضي اللَّه عنها- ترفعه إلى الرَّسُول صلى الله عليه وسلم : (لاَ تَسْتَرْضِعُوا الْحَمْقَى فَإِنَّ اللَّبَنَ يُورِثُ)(5)

ومما يجدر الالتفات إليه: أن اللَّه تعالى أغنى نبيه صلى الله عليه وسلم بالمرضعات ذوات المعدن النفيس، فزيادة على أمه آمنة، أرضعته ثُوَيْبَة جارية أبي لهب، التي أرضعت عمه حمزة وعبد اللَّه بن جحش، ثم بعد ذلك حليمة السعدية.

يكتبها : ذ. المفضل فلواتي

——————-

1- الروض الأنف للسهيلي 1/183 والحمد كما يكون في الختام شكراً لنعمة كما قال اللَّه تعالى: {وَقٍضِيَ بَيْنَهُم بِالحَقِّ وَقِيلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} -سورة الزمر: 72، {وآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} سورة يونس: 10. فكذلك يكون شكراً للنعمة مطلقا ومن ذلك قول اللَّه تعالى: {الحَمْدُ لِلَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} الزمر: 71، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} سورة فاطر: 34، إلاَّ أن ذلك كله في الآخرة، لأنه لا نعمة تستحق الحمد أكثر من غفران اللَّه وتكريمه لعباده في الدار الأخرى.

2- قال السُّهَيْلي: لا يُعْرف في العرب من تسمى باسم >مُحَمَّد< صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة طَمع آباؤهم -حين سمعوا بذِكْر مُحَمَّد، وبقُرْب زمانه، وأنه يُبْعث في الحجاز- أن يكون ولداً لهم، وهم: مُحَمَّد بن سفيان بن مجاشع، مُحَمَّد بن أُحَيْحَة، مُحَمَّد بن حُمْران 1/182.

3- أخرجه البخاري، انظر فقه السيرة للغزالي: 62.

4- انظر تفسير الفخر الرازي 31-32/219، فإقبال المسلمين على تسمية أولادهم بهذا الاسم أكبر دليل على استمرار الحمد عمليا.  //   5- الروض الأنف 1/187.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>