حوار العدد : حوار مع الأستاذ محمد صادق الحسيني


كثيرة هي الأصوات -الرسمية والشعبية، الفردية والمؤسساتية- التي ارتفعت عالية بعد أحداث الثلاثاء الأسود بأمريكا، لكن القليل والقليل منها فقط هو الذي كان يعبر عن وجهة نظر غالبية أبناء الأمة العربية والإسلامية، فقرأ الأزمة بعمق في التحليل وبحكمة في التعليل وبمستقبلية في البحث عن البديل.

ولسنا نذيع سرا إذا ما قلنا بأن الكثرة الكاثرة من تلك الأصوات التي عبرت بشكل أو بآخر عن وجهة نظر الصليبيين الجدد، إنما كان يحكمها في شعاراتها وعلاقاتها وتحالفاتها منطق الرغبة تارة ومنطق الرهبة تارة أخرى، الرغبة في نيل رضا أمريكا “هُبل العصر” عندهم، والرهبة من أن تسكت عن موالات أمريكا، وتتخلف عن تقديم فروض الطاعة، توصف بأنها إرهابية أو على الأقل تدعم الإرهاب.

في هذا اللقاء الحواري نلتقي مع صوت من تلك الأصوات القليلة التي قرأت أحداث 11 شتنبر بعيون غير أمريكية بل بعيون معادية لأمريكا، وبوجهة نظر ترى في أمريكا شيطانا أكبر.

نلتقي مع المفكر الأستاذ محمد صادق الحسيني المُستشار الثقافي للرئيس الإيراني محمد خاتمي، والأمين العام لمنتدى الحوار العربي الإيراني.

والأستاذ محمد صادق الحسيني، رغم انشغالاته الكثيرة، وارتباطاته المتعددة، فإنه لا يحْرمُك من أن تتحدث إليه وتتحدث معه، كيف شئت وأين شئت، ومتى شئت، إنه باختصار شديد “رجل بلا حدود ومفكر بدون جمارك”.

التقيناه على هامش الندوة الدولية التي نظمتها الإيسيسكو بالرباط في موضوع “صورة العالم الإسلامي في الإعلام الغربي بين الانصاف والاجحاف” فجاء الحوار معه كما يلي :

< أستاذ صادق الحسيني : أمريكا وما أدراك ما أمريكا، القوة العظمى في العالم -كما يقال- تضرب يوم 11 شتنبر، في عقر دارها وفي رموز عزتها، ثم بعد ذلك تتهم خصما طالما اتهمته بالتخلف والرجعية؟ كيف تنظرون إلى هذه المفارقة؟ وما دلالاتها؟

> في الحادي عشر من شتنبر من العام 2001، اكشتفت أمريكا الدولة العظمى الوحيدة في العالم أنها بالإضافة إلى خسارتها لمعركة أمنية معلوماتية استخباراتية بل وحتى عسكرية في أحد أشكالها أمام خصم أو عدو كان يبدو شديد البساطة، بل ويفتقر إلى شروط التحدي بين الخصوم المتكافئة إنها تخسر هذه المعركة أيضا أمام أنظار العالم أجمع وبالطريقة الحية المباشرة وبالصوت والصورة كاملة، وعلى يد من؟ على يد من ظلت أمريكا تعتبره لعقود رمزا للتخلف والجهل والرجعية، وهو ما كانت تصوره لشعبها عبر شاشات التلفزة والسينما في هوليود وغيرها، بل وحتى في قصص الأطفال التربوية، ناهيك عما كانت تروج له عبر صفحات جرائدها اليومية، ومجلاتها الأسبوعية وتحقيقاتها ودراساتها الأكاديمية.

وهكذا فقد كانت أحداث 11 شتنبر لأمريكا، ضربة في الصميم وفي قلب وفؤاد الكبرياء والعزة التي كان يتباهى بهما السيد الأبيض عموماً.

في تلك اللحظة التاريخية كانت أمريكا ومعها رواد الحضارة أو المدنية الغربية بتعبير أدق، على موعد برأيي مع العدالة، وفي منعطف الطريق بين الإنصاف والإجحاف. وقد ظهر بالفعل في اللحظات الأولى على لسان قادتها وزعمائها ما كانت تضمره -تأدبا- ظاهريا في جوفها تجاه العرب والمسلمين.

لقد جاءت وقائع 11 شتنبر 2001م، امتحانا حقيقيا لأمريكا، فسقطت أمريكا في هذا الإمتحان وفشلت فيه فشلا ذريعا.

< قلتم أستاذ، بأن وقائع الثلاثاء الأسود تعتبر امتحانا حقيقيا لأمريكا، وأنها قد سقطت وفشلت فيه، كيف تفسرون بأنها فعلا امتحان حقيقي، وما مظاهر الفشل الأمريكي في هذا الامتحان؟

> وقائع 11 شتنبر كانت امتحانا حقيقيا لأمريكا، وقد فشلت فيه فشلا ذريعا كيف ذلك؟

أولا : أمريكا التي ظلت تنادي على مدى عقود بحرية تداول المعلومات والأخبار، اكتشفت في تلك اللحظة بأن عليهاالتكتم على ما أصابها بأقصى درجة ممكنة، فخرجت عن تقاليدها مع شعبها، ونقضت ما تعهدت به تجاهه، واتجهت للتأصيل لنظام بوليسي يمنع صراحة حرية تداول المعلومات ليس فقط في أمريكا بل وحرمتها على العالم أجمع.

ثانيا: أمريكا التي ظلت تقول للعالم أن النظام الليبرالي الحر في التعامل ينبغي أن يشيع في العالم، وأن النظام الديمقراطي يجب أن يعمم على دول العالم وبلدانه، اضطرت هي إلى مراجعة أبسط قواعده وأولوياته مع شعبها ومع المقيمين على أرضها أيضا لا لشيء إلا دفاعا عن ذاتها وكبريائها وعزتها المنكسرة، فأعلنت وأقرت من القوانين ما يشبه حالة الطوارئ والأحكام العرفية التي تتبعها الدول الاستبدادية في مثل هذه الحالات.

ثالثا : أمريكا التي ما انفكت تطالب العالم الآخر من الجنوب بشكل خاص ودول العالم العربي والإسلامي بشكل أخص بضرورة قبول الآخر وتحمله والتساهل والتسامح معه سرعان ما كشرت عن أنيابها، ولم تعد تتحمل من الآخرين حتى أقرب الناس إليها، إلا أن تكون معها أو ضدها، وهكذا سقطت كل ترانيم التعددية وتسبيحاتها وظهرت العولمة الأمريكية المطلوبة للعالم على حقيقتها، وكانت ثقافة الكاوبوي، >أريد بن لادن حيا أو ميتا< هي البديل.

رابعا : أمريكا التي أصابت آذان العالم بالطرش لشدة ما تحدثت وأطنبت في شرح فضائل حقوق الإنسان، وكيف أن بعض الأديان أو التقاليد والثقافات القديمة لم تستطع مجاراة العصر واستيعاب تطوراته اسقطت في امتحان حقوق الإنسان الأفغاني إلى درجة دفعت بوزير الدفاع الأمريكي إلى التصريح بأنه لا يريد رؤية أسرى بل يريد موتى، فكانت مجزرة قلعة كنجي، وقصف سجن القلعة بالطائرات!

خامسا : أمريكا التي ظلت تتحدث عن حق الآخر في التعبير عن آرائه ومواقفه، لم تتحمل من فضائية أن تعرض أفكار وآراء ومعلومات وأخبار خصمها وتقوم بنقلها للعالم ، فقصفت موقعها في كابول بحجة الترويج للإرهاب، بل والأنكى من ذلك أنها استنفرت طاقمها الديبلوماسي كله للضغط على أمير قطر لمنع قناة الجزيرة من تغطية أخبار الطالبان وبن لادن في حين قامت بالمقابل بتعبئة شاملة لأجهزتها لإعادة الاعتبار لقناة CNN الفضائية الأمريكية، التي سبق لها أن أقرت بخسارة المعركة الإعلامية أمام الجزيرة، أي أمام قناة عربية وهو ما يحدث لأول مرة في تاريخ الإعلام الغربي.

< بعد الهجوم على أمريكا يوم 11 شتنبر تردد على لسان رئيسها، بوش مصطلح الحرب الصليبية هل يمكن أن تفهم من وجهة نظركم الحملة المعلنة بالحرب على الإرهاب الجارية الآ ن بأنها حرب صليبية على العرب والمسلمين فعلا؟.

> طبعا هي كذلك، ليس فقط لمن تعتبرهم أمريكا إرهابيين ومتشددين، بل حتى الأقرب الناس إليها، فأنت ترى أن أمريكا التي طالما سعت لتطمين حلفائها وأصدقائها من المعتدلين العرب والمسلمين خرجت من طورها لأول مرة في تاريخ علاقاتها الثنائية والمتعددة عندما قامت بشن حملة شعواء وغير مبررة ضد أصدقائها السعوديين والمصريين ولم يسلم من هذه  الحملة والتشويه حتى المبادئ والأفكار والعقائد والمذاهب التي يدين بها هذان البلدان بل وأظهرت الكثير من الكتابات والتعليقات والتقارير الإخبارية والإعلامية الغربية مدى الحقد الدفين الذي تحمله في صدورها الكثير من النخب الغربية الفكرية والسياسية والإعلامية.. ضد الدين الإسلامي والشريعة والقوانين والعقائد الدينية ا لتي تشكل ثقافة عامة في بلادنا.

إن أمريكا في تصرفها المتعجل وغير العقلاني إعلاميا، وكذلك غير العادل وغير المتوازن سياسيا، تكون قد ساهمت في صب النار على زيت المعركة الراديكالية العقائدية الشمولية، وأشعلت فتيل النار العقائدية ضد المسلمين، وهي بذلك تكون قد ساهمت في :

1- أن ينقسم العالم إلى فسطاطين كما كان يقول بن لادن.

2- أن يكون الحل الوحيد المتبقي للأزمة هو التشدد والحرب وبهذا تكون أمريكا سواء رغبت بذلك أو لم ترغب قد أطلقت رصاصة الرحمة على مدرسة الاعتدال في أوساط الحركة الإسلامية.. وبذلك انقلبت أمريكا إلى أمريكا التلمودية المعادية لكل من هو غير راض عن الثقافة التوراتية.. وهو ما كان عمليا يعني رسم صورة لحرب صليبية جديدة لا مكان فيها للعقل ولا للدين، وكلمة الفصل فيها للقوة العارية فقط، وهو البعد الأبعد ما يكون عن صورة أمريكا المزعومة أي أمريكا التسامح والحريات والانفتاح على الآخر، فباتت (أمريكا) كما هي دون روتوش، أي أمريكا صاحبة مدرسة الكاوبوي في تعاملها مع كل ما هو غير أمريكي ابتداء من شعب الهنود الحمر المظلوم، وصولا إلى أمة العرب والإسلام المستباحة بعد وقائع نيويورك وواشنطن.

< إذا كانت وقائع 11 شتنبر وماتلاها من تداعيات تعتبر امتحانا عرّى أمريكا وكشف عن وجهها، بل عن وجوهها المقنّعة، فكيف كانت تلك الأحداث بالنسبة لنا نحن العرب والمسلمين؟

> إن أحداث 11 شتنبر هذه كانت ابتلاء لنا نحن العرب والمسلمين، وفي الصميم من حركتنا ونهضتنا الإسلامية الإعلامية والسياسية فكيف ذلك؟

أولا : كشفت وقائع شتنبر عن فقدان عالمنا العربي والإسلامي إلى أية استراتيجية أو حتى رؤية واضحة للعالم الآخر تفيدنا في تطوير أنفسنا أو تقينا المصائب والويلات في الأزمات والمنعطفات، وبالتالي فقد بات الضعف والوهن العربي الإسلامي في أسوأ صورة بحيث أصبحنا كالأيتام على مائدة اللئام.

ثانيا : كشفت الوقائع المروعة في خطابنا وأدواتنا الإعلامية في الدفاع عن قيمنا ومبادئنا الدينية والوطنية، ناهيك عن قدرتنا للدفاع عن الثوابت التي لطالما تغنينا بها فتفرقنا شيعا وأحزابا وظهرنا كأمة تعيش حربا أهلية في الفكر والثقافة والخطاب الإعلامي.

ثالثا : أظهرت وقائع شتنبر أيضا مدى العجز الذي تعاني منه أمتنا والإقتدار المفقود لدى السلطات المختلفة في بلداننا سواء كحكومات منفردة أو ككتلة عربية أو اسلامية أمام الهجمات المعنوية والماية التي تتعرض لها الأقليات المسلمة في بلاد الغرب أو حتى الدفاع عن مواطنينا على الأراضي التابعة للعالم الإسلامي نفسه، فلم نستطع أن نقدم الحماية المطلوبة للمسلمين في أمريكا وأوربا، كما لم نستطع أن نساهم في إيجاد الحلول لما بات يعرف بظاهرة الأفغان العرب” طوال مراحل الحرب الأمريكية في أفغانستان.

رابعا : كشفت حوادث 11 شتنبر مدى أهمية الحد الأدنى من التضامن العربي والإسلامي الذي افتقرناه منذ سنين، وضرورة البحث بجد عن آليات عملية وحقيقية تؤمن التنسيق المستمر والتعاون الدائم ولو في إطار الحد الأدنى في وقت باتت فيه التحديات تفرض علينا أن نتحول في أسرع ما يمكن إلى كتلة اقتصادية متراصة تستطيع ضمان بقاء كل جزء من المجموعة أمام طوفان العولمة الجارف.

خامسا : كشفت حوادث 11 شتنبر الأهمية البالغة لمقولة الحوار وآلياته ليس فقط بين الشمال والجنوب أو الغرب والشرق، بل بين الثقافات والحضارات والمدنيات المختلفة بشكل عام، الأمر الذي زاد من مسؤوليتنا نحن العرب والمسلمين باعتبارها الأمة الوسط التي يقوم دينها أساسا على الحوار والتوازن والاعتدال وتبادل الرأي والرأي الآخر.

باختصار شديد فقد كشفت وقائع الثلاثاء الأسود الأمريكي، وتداعياته العالمية، فقدان الوزن العربي والإسلامي في أية معادلة دولية، بقدر ما كشفت أهمية الإسلام كدين وكثقافة وكفكرة وكحضارة وكقوة كامنة يمكنه إذا ما وظف بشكل صحيح في خدمة البشرية من قلب موازين سياسية استراتيجية كبرى في العالم.

وإذا كان الأمريكيون ومن بعدهم الأوروبيون بدرجة أدنى قد فشلوا بامتياز في امتحان الإعلام المنصف في هذه الأزمة العالمية، فإن أمة العرب والمسلمين بالمقابل فشلت في تقديم صورة مشرقة عن دينها وإسلامها وتراثها.

< الحرب الصليبية الجديدة بزعامة أمريكا على العالمين العربي والإسلامي بدأت بأفغانستان ثم بدأ التلويح بضرب دول أخرى بحجة أنها دول إرهابية أو أنها تأوي الإرهاب، إلى أين ستنتهي في نظرك هذه الحملة المحمومة، وما هي أهدافها الحقيقية؟

> الحملة بدأت بأفغانستان بحجة البحث عن بن لادن واسقاط نظام الطالبان، ولا يعرف إلا الله أين ستنتهي؟

وما يجري من اجتياح إعلامي وعسكري.. بلا حدود للإسلام والمسلمين تحت مظلة محاربة الإرهاب، ما هو إلا البداية للحرب الحقيقية المفتوحة والشاملة ضد إمكانية قيام أي كتلة إسلامية أو عربية مقاومة لمشروع العولمة المت وحش على الطريقة الأمريكية.

إنهم يخططون لاستسلامنا الكامل والشامل لنلتحق بهزيمة الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة.

وإذا ما تطلبت هزيمة الإتحاد السوفياتي نحو 70 عاماً ليرفع الراية البيضاء، فإنهم يخططون لإستسلامنا ورفع الراية البيضاء من بين صفوفنا مدة قد تطول سنتين كما يقولون أو عشر سنوات على حد أقصى.

وليس بالضرورة هنا أن نعتقد أن هذه الحرب دينية أم لا؟ المهم أنهم لا يريدوننا كتلة قومية عربية كانت أو إسلامية، المهم أن لا نقاوم الاجتياح الهوليودي العولمي وأن نعبِّد الطريق لوصولهم وتمركزهم في ما تبقى من منابع الطاقة ومن نفط وغاز وسائر حقول المعادن الثمينة، ناهيك عن لعب دور جسر العبور والنصر على من تبقى من أقطاب العالمين الثانويين أو الإقليميين ممن لا يزال يفكر بعالم متعدد الأقطاب والرؤى، وأفضل حرب تفيدهم في هذه المعركة لتحييد العالم “المتحضر” غير الأمريكي، هو أن تقوم على وصف العرب والمسلمين بالإرهابيين.

إنهم باختصار يريدون إعلانا عالميا مؤيداً من كتلة عربية إسلامية معتدلة، مفاده أن الإسلام يساوي الإرهاب ردا على محاولاتنا المتعثرة لإثبات أن الصهيونية تساوي العنصرية.

حاوره  :

عبد اللطيف الأنصاري

————

(ü) المستشار الثقافي للرئيس الإيراني محمد خاتمي.

الأمين العام لمنتدى الحوار العربي -الإيراني.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>