الـتـفـكـك  الأسـري: الأسباب والعواقب والحلول


مفهوم التفكك الأسري

لا مناص من إبراز الوظائف التي أنيطت بها الأسرة حتى يكتسي حكمنا على الواقع الأسري بالتفكك أو بغير ه، طابعا من الموضوعية والمصداقية. فما هي يا ترى وظائف الأسرة؟

بالرجوع إلى تعريف الزواج، يتبين لنا أنه يحتوي على إبراز بعض تلك الوظائف.

فهناك وظيفة الإحصان والعفاف التي تجسد حفظ كلية العرض ، بالأمان والسكن والاستقرار. يقول الله تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة}(1).

أما الوظيفة الثانية فهي الوظيفة التكاثرية، المعبر عنها بتكثير سواد الأمة،(2) وهي ذات صلة وثيقة بكلية أخرى ،إنها كلية حفظ النسل أوالنوع.

وهناك وظيفة ثالثة هي وظيفة تحقيق الأمن وإشباع الحاجة إلى الانتماء لدى أفراد الأسرة في ظل مناخ أسري يستبطن روح القيم والآداب والأحكام التي ارتضاها الإسلام.

والوظيفة الرابعة هي وظيفة التنشئة الاجتماعية المتمثلة في تشكيل شخصية الأولاد طبقا للنموذج الثقافي الذي يتطابق مع ميراث الأمة الحضاري ويعكس مطامحها في معترك التدافع من أجل إثبات الذات وتأصيل الوجود. وحتى نرتقي من التعميم إلى التدقيق في سياق المفهوم الإسلامي، نقول بأن هذه الوظيفة الرابعة تتمثل في حماية الفطرة والحفاظ على كنوزها وإخراج مكنوناتها، وذلك  من خلال تأمين البيئة السليمة التي تسمح بذلك. ويعكس هذه الحقيقة قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء”(3).

عود على بدء: بعد هذا البيان الموجز لوظائف الأسرة نعود لنتساءل عن أنواع التفكك الأسري فما هي أنواع التفكك الأسري؟

أنواع التفكك الأسري

يمكن التمييز في ظاهرة التفكك الأسري بين مستويات على سلم متعدد الدرجات:

< درجات دنيا من التفكك لا يتعثر معها سير الأسرة، كأن تفتر عاطفة التواد بين الأب والأم لأسباب عارضة وتخلف بعض الرضوض على جسم الأسرة، قابلة للتضميد .

< كما يمكن أن يأخذ التفكك الأسري طابعا أشد حدة يتمثل في تمزق أوصال الأسرة وانفراط شملها، ولو في ظل استمرار عقد الزوجية . وهذا النوع من أنواع التفكك الأسري يتسع نطاقه إلى حد بعيد، بفعل استقالة الآباء عن القيام بأعباء التنشئة الثقافية، أو بفعل الصدام والتعاند والتشاكس التام .

< وقد ينقض الميثاق الغليظ وتنفصم عرى الزوجية، بفعل الطلاق الذي يهتز له عرش الرحمن جلت قدرته. فهذا النوع ينطبق عليه مفهوم التفكك بمستوييه المادي والمعنوي، وهو نتاج لدرجة قصوى من اختلال الوظائف والمهمات المسندة لمؤسسة الأسرة.

الأسرة بين خطر التفكك وخطر الاندثار

إننا نشاطر المفكر المسلم علي عزت بيكوفيتش ما ذهب إليه من أن “كل درجة تطور في المجتمع يقابلها حيف بالأسرة بنفس النسبة، فإذا ما تم تطبيق المبدأ الاجتماعي بكل نتائجه ـ أي وصل إلى وضع الطوبيا ـ تلاشت الأسرة. إن الأسرة باعتبارها حاضنة العلاقات الرومانسية والشخصية الحميمة في تعارض مع جميع مبادئ الطوبيا”(4).

ويقول علي عزت بيكوفيتش معبرا عن نفس الحقيقة : “إن الحضارة لا تقضي على الأسرة فقط من الناحية النظرية، وإنما تفعل ذلك في الواقع أيضا. فقد كان الرجل أول من هجر الأسرة ثم تبعته المرأة، وأخيرا الأطفال. ونستطيع أن نتتبع القضاء على الأسرة في كثير من الجوانب. فعدد حالات الزواج في تقهقر متصل، مع تزايد في حالات الطلاق، وازدياد عدد النساء العاملات المطردة في عدد المواليد غير الشرعيين، وازدياد مستمر في عدد الأسر التي تقوم على أحد الوالدين فقط وهي الأم… إلخ”(5).

إن ما عبر عنه المفكر علي عزت بيكوفيتش من حقائق لَيعكسُبجلاء الوجه المأساوي والبعد التدميري الرهيب للتطور. أن التطور الذي تحدث عنه علي عزت بيكوفيتش والذي ترتب عنه ذلك الانتقال المأسوي من الأسرة إلى اللاأسرة، إنما هو تطور منفلت من أي نسق من الضوابط الكفيلة بتسديد المسار… وهنا لا بد من التمييز بين تطور محكم مسدد بالوحي، وبين تطور أخرق ينساق وراء الغرائز والأهواء. ولربما تعلل بعض المتفائلين بأن هذه التحولات الخطيرة إنما هي مقصورة على المجتمعات الغربية التي ذهبت أشواطا بعيدة في مضمار التطور. أما المجتمعات المتخلفة تكنولوجيا فليست معنية بالنتائج الوخيمة لتلك التحولات.

ولقد استطاع الأستاذ المفكر عمر عبيد حسنة أن يجمل أهداف المحاولات الخطيرة والمحمومة التي يقوم بها الغرب لنسف حصن الأسرة الذي ما يزال يحتفظ ببعض قدراته على المقاومة والصمود.

يقول: “إن المحاولات اليوم مستمرة لتكسير حواجز الحياة والقفز فوق الكثير من الضوابط والقيم الدينية الأخرى أيضا، لينتهوا إلى أن مفهوم الأسرة بالمعنى الذي يشرعه الدين ليس إلا مفهوما عقيما، وقيدا على الحرية الشخصية، لأنه لا يتقبل العلاقات الجنسية الحرة بين مختلف الأعمار، ويشترط أن تكون بين ذكر وأنثى فقط، وضمن الإطار الشرعي، ولأنه لا يمنح الشواذ حقهم في تكوين أسر بينهم، ويتمسك بالأدوار النمطية للأبوة والأمومة والعلاقات الزوجية ضمن الأسرة، معتبرين أن ذلك مجرد أدوار وأشكال لا تخرج عن كونها مما اعتاد الناس ودرجوا عليه وألفوه، حتى دخل في طور التقاليد المتوارثة”(6).

أسباب التفكك الأسري

أ ـ الأسباب الذاتية :

1 – البعد التصوري :

يحتل هذا البعد مركز الصدارة من حيث التحكم والتأثير في بناء الأسرة ونسيج علاقاتها وطبيعة سيرها، فهو يتعلق بالجهاز المفاهيمي التصوري أو ما يسمى بالإطار المرجعي الذي تحدد في ضوئه المواقف وأنماط السلوك الصادر من كلا الزوجين على حد سواء. فإذا كان توافق الزوجين في المرجعية الفكرية موجبا للتماسك والانسجام، فإن الاختلاف فيها موجب للتنافر والانقسام.

ويدخل هذا الجانب فيما يسمى في الفقه الإسلامي بالكفاءة. ولذلك فقد حذر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من مغبة الانبهار بالمعايير الزائفة عند الإقدام على الزواج، قال عليه السلام: “لا تزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن يطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين”(7). وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: “قال إياكم وخضراء الدمن قيل وما   خضراء الدمن  قال المرأة الحسناء في منبت السوء”(8).

ويكفي أن نتمثل معنى الإرداء والإطغاء الواردين في الحديث لندرك سوء عاقبة ذلك على توازن الأسرة واستقرارها. فليس مع الانحدار الأخلاقي الناتج عن الغرور ولا مع الطغيان الناتج عن الغنى إلا التنازع والصراع ثم الهلاك.

ولمفهوم القوامة-المرتبط بالكفاءة-التقاء في بعض أبعاده بمفهوم الطاعة الذي يشمل الزوجة كما يشمل الأولاد على حد سواء. فإذا كانت الطاعة في المعروف جالبة للخير والبركة والسلام، فإن التمرد والعصيان يجران الأسرة إلى أتون من الويلات والعذاب. وليست الطاعة أبدا في ظل المنظومة التربوية الإسلامية مرادفا للخنوع الذي يجرد شخصية الإنسان من خصائصها المميزة وقدرتها على الإبداع، بل إنها ذلك السلوك النبيل النابع من شعور مرهف بجملة من المعاني السامية التي لا يعقلها إلا العالمون. أما أصحاب القلوب القاسية، فقد حيل بينهم وبين ذلك المرتقى.. فعندما نقف مثلا أمام قوله سبحانه وتعالى  في شأن علاقة الأبناء بالآباء {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة}(9) فإننا ندرك السر العميق والحكمة الكامنة من وراء هذا الأمر الرباني الجليل.

2 – البعد السلوكي :

السلوكات والممارسات لا تنتج بشكل تلقائي آلي عن المفاهيم والتصورات،  فهي تحتاج إلى دربة وترويض تكتسب النفس من خلالهما أنماطا من السلوك والمهارات، تصطحب معانيها ودلالتها بحسب اصطحابها للنية الخالصة والإرادة الحية الناضجة.  وغير خاف على أولي الألباب ما يكمن وراء الفصام النكد في حياة المسلمين من غلبة موجات التغريب العاتية وما تمارسه من ضغوط للحيلولة دون استتباب الأمر لأي نموذج متكامل يحمل صفة الإسلام.

“لقد أحسست بفزع شديد وغثيان عارم وأنا أقرأ في عدد من جريدة “المسلمون” الغراء، بصفحة “المسلمات” عن مشكلة طرحتها إحدى النساء المتزوجات، تلتمس لها حلا. وتكمن المشكلة في كون الزوجة الآثمة تشعر بميل جارف نحو زوج جارتها الذي يختلف كثيرا – والتعبير لها – عن زوجها في الطموح والنجاح والبهجة والمرح، وتحسد زوجته عليه…! إن أول شيء نقرره هنا أن هذه المشكلة – وإن كانت تمثل نموذجا صارخا للتلوث الذي يعتري القلب فيصيبه بانفصام رهيب وازدواجية قاتلة، فإنها لا تمثل حالة نادرة في عصر سادته الفوضى واختلت فيه الموازين واخترقت فيه الحدود وديست القيم، فأصبحنا أمام خطر ماحق يهدد الأسر بالتفكك والمجتمع بالخراب”(10).

إذا كان “الحياء لا يأتي إلا بخير”(11) كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن فقدانه لا ينجم عنه إلا الشر، ومن أبرز هذا الشر، ذاك الذي يهاجم الأسرة، فيزرع في مفاصلها بذور التفكك والانحلال.

ب – عوامل موضوعية:

1 – الدائرة الصغرى : محيط الأسرة الداخلي:

إن غياب الأب أو الأم(بسبب العمل مثلا) عن الأسرة بشكل غير عادي، أو لمدة أطول من المعقول يخلف فراغا نفسيا وتربويا تنعكس نتائجه السيئة على تماسك الأسرة ووحدتها والتحامها. كما أن غياب الأب يترتب عنه علاوة على الحرمان من المدد العاطفي افتقاد الأسرة للمحور الجامع والراعي الأمين.

ومن باب الاعتبار بما يقع للأقوام الآخرين من نكسات وانهيارات أسوق بعض ما أورده المؤلف الأمريكي ستيفن كوفاي في مؤلفه “العادات السبع للعائلات الفعالة للغاية” حيث يقول: “إن 83% من الأسر في الولايات المتحدة تعمل فيها الزوجات خارج البيت مع إهمال كبير في غالب الأحيان لرعاية الأطفال، حيث يقضي الطفل الأمريكي يوميا سبع ساعات أمام التلفاز، الذي يعرض الكثير من مشاهد العنف والجنس والخيانة الزوجية. وتخلي الأبوين، والأم خاصة، عن التربية هو السبب الأساسي في الجنوح والإجرام”(12).

ومن العوامل التي تندرج تحت هذا الصنف الفرعي من العوامل الموضوعية ما يطلق عليه “صراع الأجيال الذي  يتحول إلى مشكل فعلي يهدد الأسرة بالتفكك في الحالة التي يفتقد فيها الآباء عنصر الحكمة وحسن إدارة الاختلاف في الرؤى وفهم الأمور بينهم وبين أولادهم.

2 – المحيط المجتمعي :

يساهم المحيط المجتمعي، بروافده السياسي والاجتماعي والثقافي والإعلامي والتعليمي التربوي،بشكل ملحوظ في توهين الوشائج المألوفة بين أعضاء مؤسسة الأسرة، في ظل تعميق النزعة الفردية.

< فتعدد الولاءات السياسية قد يجعل من أفراد الأسرة جزرا متنافرة كل يولي وجهه شطر ما يراه معبرا عن اختياراته الفكرية أو مصالحه المادية.

< أما من الناحية الاجتماعية، فإن المفارقة بين فئات ممعنة في الترف وأخرى ممعنة في الفقر، تولد لدى الأولى دواعي الانحلال والانسلاخ من القيم الداعية إلى التماسك والائتلاف لحساب الأنا المنتفخة النزاعة إلى العبِّ من الشهوات حتى الثمالة. وتولد لدى الثانية أخلاق القسوة واليأس وضيق الصدر، والنزوع إلى الصراع. ولا شك أن مستوى التماسك والتساند يتضرر في ظل الأسر المنتمية إلى هذين الصنفين من الفئات.

< وعلى المستوى الثقافي يشكل انسياق الفكر والثقافة في اتجاه منحرف عن هيمنة الإسلام وقيمه، كما يشكل الضخ الإعلامي العاتي وسيادة ثقافة الصورة وسحر التقنيات العالية الحبكة والإتقان، فتنة عمياء تسبب للناس ذهولا عن بعضهم البعض وتقذف بهم في غيبوبة بعيدة المدى.. ولا شك أن التماسك الأسري يتأذى من جراء هذه الوضعية الحرجة. وقد التفت أحد المفكرين الغربيين إلى خطر العولمة على الأبنية والتضامن الاجتماعي، يقول سيرج لاتوش: “فمن خلال الإدماج الاقتصادي العالمي، ومن خلال العولمة الثقافية، ومن خلال ألف من القنوات المتباينة التي تتبادل تعزيز بعضها، تتسلل الفردية إلى كل مكان، وتتفشى بعمق متزايد دوما في المجتمعات غير الغربية، على أن العقلية الفردية تمثل خميرة تحلل للعلاقة الاجتماعية  وهي تنخر في نسيج التضامنات التقليدية كسرطان”(13).

< أما على الصعيد التعليمي التربوي فتظل المناهج الدراسية الملغومة بأفكار وتصورات وقيم تعمل على استنساخ النموذج الغربي للعلاقة بين الرجل والمرأة بعامة، ولمفهوم الأسرة بخاصة، وكذلك للعلاقة بين الآباء والأبناء، تظل تلك المناهج تمثل معول هدم يفتك بعقول الناشئة الذين يراد منهم أن يشكلوا عوامل شرخ داخل حمى أسرهم بما يحملونه من أفكار تدعو للصراع بدل الوئام، وللفردية بدل الجماعية، وللإباحية بدل الالتزام بمكارم الأخلاق.

3 – ثقافة حقوق الإنسان :

قد يكون من دواعي الاستغراب أن تصنف ثقافة حقوق الإنسان ضمن عوامل المساهمة في تقويض دعائم التماسك الأسري. ومع ذلك فإن ثقافة حقوق الإنسان بحمولتها الغربية والمتلبسة برؤية الإنسان الغربي للحياة وللإنسان، تقيم حواجز صارمة وجدرا سميكة بين حقوق كل من المرأة والطفل، علاوة على عدم إيلاء أي اعتبار لحق الرجل (الزوج) وحق الأسرة وحق المجتمع. هذا مع العلم أنه لا يمكن أن يتصور الإنسان العاقل حقوق هؤلاء منفصلا بعضها عن بعض، فهي كل لا يقبل التبعيض. يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري وهو يتحدث عن “العلمنة” الشاملة للأسرة والزواج ما يتضمن تأكيدا للحقيقة السالفة الذكر: “وتأخذ علمنة الأسرة شكل قيام الدولة بكثير من الوظائف التي كانت تضطلع بها الأسرة في السابق، مثل التعليم وتنشئة الأطفال، الأمر الذي يجعل الأسرة لا وظيفة لها، ثم يتحول أعضاء الأسرة بالتدريج إلى أفراد مستقلين لكل حقوقه الكامنة فيه “حقوق الإنسان” وتتحول الأسرة من أسرة ممتدة إلى أسر نووية، وتظهر بعد ذلك حقوق المرأة فحقوق الطفل، وبذا تبدأ الأسرة كوحدة متكاملة مبنية على التراحم في الاختفاء”(14).

آثار التفكك الأسري

أ ـ على شبكة العلاقات الاجتماعية :

إننا نعلم علم اليقين أن ما يسبح في المجال الثقافي للمجتمعات الإسلامية، من جراثيم الحداثة، يمارس أثره الهدام على شبكة العلاقة الاجتماعية، ومع ذلك، فقد كان بالإمكان التخفيف من حدة ذلك الأثر من موقع الأسر، لو ظلت على ما عهد فيها من تماسك والتحام، بسبب ما يؤهلها له طابعها الحميمي وجوها الدافئ وروحانيتهاالمشعة بفعل روابط العقيدة والرحم، وما هو منوط به من مهمة توحيد الغذاء التربوي للأفراد، وما يرتبط به من نظام الضوابط الباعثة على حفظ الأمن والتضامن الاجتماعيين.

إن معنى “الجسدية” الذي يتضمنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”(15) يجد تحققه، أول ما يجده في النموذج الاجتماعي المصغر الذي تمثله الأسرة، فإذا انعدم هنالك بسبب داء التفكك، كان انعدامه في شبكة العلاقات الاجتماعية من باب الأولى والأحرى.

ب -على التقاليد والقيم والتربية والثقافة :

إن عملية التنشئة الاجتماعية (…) “هي العملية التي بمقتضاها يتدرب الأفراد لكي يتوافقوا مع ضروريات الحياة المختلفة، ففي داخل الأسرة يتضمن النظام الأسري مجموعة من القواعد المشتركة تحقق النظام في العلاقات الأسرية، وتعمل على تلبية رغبات أفرادها، (…) ففي نطاق الأسرة يبدأ الطفل في تلقن الأوامر والقواعد المثالية للضبط الاجتماعي عن طريق والديه وإخوته الكبار، عن طريق ترشيده والعمل على تجنيبه السلوك الجامح أو المنحرف أو العادات المستهجنة، وإرشاده إلى خير الطرق الممكنة لتطويع مواقفه لمقتضيات الضوابط وقواعد آداب السلوك العامة”(16).

ج -على التنمية الشاملة :

يقول سيد دسوقي حسن في سياق طرح رؤيته حول “الهيكل الحضاري للتنمية: “وما هي التنمية من جانب الدولة إن لم تكن هي التخلية بين الإنسان وترابه الوطني يتفاعل معه في ظل عقيدة موحية بالخير وشريعة منظمة لهذا الخير حتى يصنع بنفسه ولنفسه طعامه وشرابه وكل حاجياته في هذه الحياة الدنيا في حرية يتطلبها وجوده الإنساني، فإذا وضعت الدول من القوانين والأنظمة المتعارضة والمتضاربة في مجالات الحياة المختلفة ما يعوق الإنسان عن التفاعل مع ترابه الوطني، فلا تسلبعد ذلك عن تنمية أو نمو أو بقاء”(17).

الذي يعنينا هنا ، مايمكن أن تضعه أجهزة الدولة من قوانين وأنظمة تحمل في جوفها إعاقة لعجلة التنمية وتعطيلا لآلياتها. ومما يمكن أن يمتد إليه مفعول الإعاقة، مؤسسة الأسرة، بسبب الألغام القانونية المؤهلة لنسف كيان الأسر، أو تعريضها للتفكك والخراب.. ومن الغريب أن كثيرا من المشاريع المشبوهة التي تقدم في بعض الدول من طرف الاتجاهات العلمانية تقدم تحت شعارات تنموية وهي في حقيقة أمرها لا تعدو أن تكون معاول لهدم الأسرة عن طريق تجريدها من سر قوتها المتمثل فيما تنتجه من شروط نفسية وعاطفية وتنظيمية تمد الجهد التنموي بسنده الضروري.

وسائل وكيفية العلاج

إن المدخل الرئيس لتأسيس عملية تغيير الواقع الفاسد والمهترئ – وفي صلبه واقع الأسرة المتردي – هو “إعادة تشكيل مركز الرؤية للعقل المسلم” على حد تعبير الأستاذ عمر عبيد حسنة.

أ ـ دور التربية الدينية الإسلامية :

إن مما تزود به التربية الدينية الإسلامية، الناشئة، سواء عبر قناة الأسرة نفسها أو قناة المؤسسة التعليمية:

أولا: إدراك مفهوم الفطرة التي فطر الله الناس عليها قال تعالى:{فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله}(18)

ثانيا: إبراز سنن التكامل بين الرجل والمرأة كسنة كونية.

ثالثا: ترسيخ إحساس كل من الجنسين بالاعتزاز بجنسه، وتقوية استعداده للعمل على خدمة مجتمعه وأمته، بمقتضى ما يؤهله له ذلك التميز الذي يعكس أحد مظاهر الحكمة ودلائل قدرة الباري سبحانه وتعالى.

رابعا: تزكية نفوس الناشئين من خلال القرآن والسنة، بجملة من القيم التي من شأنها أن تشكل حصنا واقيا من كل ما يهدد أمن الأسرة واستقرارها.

خامسا: شرح خطة الزواج الشاملة بما يستلزمه من أركان وشروط، ومن مؤهلات مادية ومعنوية وما يتوخاه من مقاصد تعبدية ونفسية واجتماعية وعمرانية.

سادسا : إعطاء القدوة الصالحة من طرف الآباء، فيما يتعلق بحسن قيادة الأسرة وفق قواعد المنهج الإسلامي التي تجمع بين الحزم واليقظة والرفق والرحمة.

سابعا : عرض نتائج الدراسات حول وضعية “الأسرة” في المجتمعات الغربية من باب الاعتبار بما أصابها من كوارث ونكبات وما حل بها من أوجه العذاب.

ب – دور المؤسسة التربوية التعليمية:

إن الدور الرائد الذي تقدمه التربية الدينية الإسلامية لا بد أن يعزز بما يقدم لأجيال المتعلمين على مستوى المؤسسة التربوية التعليمية، من قيم ومفاهيم، تحقيقا للتجانس والانسجام في أذهان المتعلمين، ودرءا لفتنة التشويش التي يمكن أن تمارسها القيم المتعارضة الممررة عبر المناهج المتعددة لمواد المنظومة التعليمية التربوية. وهذا ما يفرض بإلحاح تحقيق مطلب أسلمة المناهج الدراسية والمنظومات التعليمية في البلاد العربية الإسلامية.

ج – دور المؤسسات الثقافية والإعلامية:

وأول مؤسسةتبرز في هذا السياق هي مؤسسة المسجد، أول مؤسسة إعلامية في الإسلام، وأعظمها على الإطلاق، فهي تمتاز عن غيرها بما تكتسيه من طابع القداسة وما يكتنفها من أجواء روحانية تتفتح لها القلوب وتستشعر رغبة عميقة في تقبل ما يلقى من نصح وموعظة..

أما المؤسسات الأخرى التي تدخل فيما يطلق عليه: المجتمع المدني أو المجتمع الأهلي، فبمقدورها، إن هي تأسست على اختيارات إسلامية، أن تقدم خدمة جليلة في هذا السبيل، بواسطة ما تقدمه من محاضرات وندوات وبرامج لمحو الأمية، وأنشطة لفائدة الرجال والنساء والأطفال، ونفس الأهداف ينبغي أن تحملها عل عاتقها وسائل الإعلام الأخرى، وخاصة منها المسموعة والمرئية، نظرا لسعة امتدادها وقوة نفوذها وتأثيرها، بفعل تنوع الأشكال التي تعرض عبرها برامجها ومحتوياتها، والتقنيات المتطورة التي تتذرع بها في ذلك.

ذ .عبد المجيد بنمسعود

————–

(1) سورة الروم الآية 21

(2) صح من حديث أنس بلفظ تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم يوم القيامة أخرجه بن حبان وذكره الشافعي بلاغا عن بن عمر بلفظ تناكحوا  تكاثروا فإني أباهي بكم الأمم

(3) رواه البخاري ومسلم وغيرهما، واللفظ للبخاري.

(4) علي عزت بيكوفيتش – الإسلام بين الشرق والغرب – مجلة النور الكويتية، مؤسسة بافاريا، ط 1، رجب 1414 / يناير 1994، ص256.

(5) المرجع السابق ص 258.

(6) الأستاذ عمر عبيد حسنة: “مقدمة كتاب الأمة العدد 83 التفكك الأسري: للأسباب والحلول المقترحة – جمادى الأولى 1422. ص22.

(7) رواه الدارقطني وابن عدي.

(8) أمثال الحديث، لابن خلاد الرامهرمزي ج: 1 ص: 121

(9 ) سورة الإسراء الآية 24.

(10) مقالة لصاحب البحث نشرت بجريدة “المسلمون” السنة 12 عدد 579. 12 شوال 1416/8مارس 1996 تحت عنوان: “منهج الله هو الشفاء” ‘(صفحة الرأي).

(11) أخرجه مسلم.

(12) عن كتاب “الولايات المتحدة طليعة الانحطاط” للأستاذ رجاء جارودي، نقلا عن مجلة المنعطف المغربية العدد المزدوج 15-16 / (1421-2000) ضمن بحث بعنوان: “الأسرة والحق الطبيعي” لرشيد أبو ثور (ص108).

(13) سيرج لاتوش “تغريب العالم” ترجمة خليل كلفت، دار العالم الثالث، ط 1 / 1992 (ص98).

(14) مقال بعنوان: “”العلمنة” الشاملة للأسرة والزواج” جريدة العالم الإسلامي العدد 1698، الجمعة 2 ربيع الأول 1422/25/05/2001 (صفحة منتدى الآراء، ص4).

(15)  أخرجه مسلم.

(16) سلوى علي سليم – الإسلام والضبط الاجتماعي – دار التوفيق النموذجية للطباعة والجمع الآلي، ط 1 المحرم 1406، 1985م. ص 31

(17) سيد دسوقي حسن – الهيكل الحضاري للتنمية – مجلة منبر الحوار السنة 7 العددان 23 و24 شتاء وربيع 1992 (ص 143).

(18) سورة الروم الآية 30.

(ü) عن كتاب الأمة رقم 85 بتصرف كبير أعده محمد البنعيادي.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>