المرأة  الرسالية  في زمن الحداثة النسوية


قد لا نجانب الصواب  إن قلنا إن استمرار الحديث عن المرأة والسجال حول قضاياها العامة والخاصة إلى درجة التطرف السياسي والفكري، يعبر عن عمق الأزمة العامة التي أصابت الخطاب العربي على وجه الخصوص منذ بروز الإرهاصات الأولى لفكر النهضة العربية؛ وهي أزمة ما كان لها أن تستمر في حياتنا بهذا الشكل الذي عطل الكثير من قدراتنا الفكرية بل وتسبب في تضييع إمكاناته في نقاشات تم الحسم فيها منذ نزول الخطاب الإلهي الفاصل الذي خصص شطراً كبيراً للحديث عن المرأة ومتعلقاتها، تلك التي لا ينكرها إلا جاحد أو جاهل.

لقد أضحى الخطاب حول المرأة والسجال بخصوص واقعها ومستقبلها مساحة شاسعة لتصفية مجموعة من الحسابات الفكرية والإيديولوجية، بين أصحاب خطاب التأصيل الداعين إلى الرؤية بعين الذات من داخل القرآن الكريم والسنة النبوية والخبرة التاريخية التي تمنحها إمكانات القول بأن المرأة عامة ما عاشت امرأة إلا بداخل المجتمع الإسلامي، وإنها عاشت بدون هذه الميزة خارج هذا المجتمع وبين أصحاب خطاب التغريب المؤسس على خلفية تحديث المجتمع والإنسان. وهكذا بقيت قضية المرأة تراوح مكانها في معمعة السجالات الفكرية والإيديولوجية التي تعكس في حقيقة الأمر اختمار ثقافة التغيير بداخل الخطاب العربي في المرحلة الراهنة الذي يسير باتجاه تصحيح المسار العام للمجتمع العربي الذي جَرَّبَ كل الاتجاهات الفلسفية الغربية في محاولة لتحديث المؤسسات والعقليات معاً. وقد تم التركيز على المرأة في خطاب التصحيح هذا لموقعها من جهة، وأثرها في التسريع بهذا الطموح الاجتماعي من جهة أخرى. وقد ازدادت مطالب التغيير تلك بمجرد ابتلاء الخطاب العربي برياح الحداثة الغربية التي تم استقدامها وإدخالها بهذا الشكل أو ذاك إلى المجتمع العربي لإحداث نوع من القطيعة التاريخية مع الماضي الذي ينظر إليه دعاة الحداثة الغربية، وكأني بهم يرون أن تحقيق التقدم مشروط باتباع نموذج الغرب الليبرالي متناسين أن هذا الضرب من الاختيار هو الطريق السريع باتجاه ترسيخ ثقافة الاستتباع الحضاري الذي كان وراء تخلفنا وتدهورنا وبعدنا عن التاريخ.

يكثر الحديث إذن عن موضوع المرأة بداخل السجال حول التحديث والحداثة، وقد لا نغالي إن قلنا بأن المراهنة على المرأة في الصراع حول هوية المجتمع العربي في محله لما لها من أثر كبير في تحقيق النهضة أو التخلف على حد سواء، ولسنا في حاجة إلى تبيان حجم هذا الأثر والموقع على حد سواء؛ ولذلك تراهن كل الخطابات الحداثية في العالم العربي المعاصر على قضية المرأة أكثر من مراهنتها على قضايا السلطة والمجتمع والاقتصاد وغيرها من القضايا ذات الصلة الوثيقة بإحداث التغيير والنهوض المطلوب.

في سياق ما جاء فيالفقرات السالفة يتضح الإطار العام للمرأة الداعية، التي يُفرض عليها قبل الرجل أن تكون في الواجهة هذه المرة للقيام بمهام جسيمة يتطلبها المنعطف التاريخي الذي تمر به ليس المرأة المسلمة فقط، وإنما الأمة بأكملها، بعد أن تكالبت جميع الأمم والشعوب عليها، إن فعلا أو صمتا، وبعد أن أصبح تدني المسلم المعاصر محط اهتمام الثقافات التغريبية التي وضعته نصب أعينها وتمكن لديها القرار بضرورة زعزعته وإحداث نوع كبير من الخلل فيه، كمقدمة ضرورية لإفراغ المسلمين من الجانب الحقيقي للتدين فتتشكل لديهم وفيهم القابلية للقبول بتدين جديد قوامه الفلسفة الغربية الخاصة بالشعوب المستضعفة والفقيرة والتابعة.

تأتي، إذن، وظيفة المرأة الرسالية في وقتها، لأنها الأعلم بشؤون المرأة من الرجل مهما توسعت ثقافة هذا الأخير من جهة، والأكثر قدرة على إحداث التغيير في بنات جنسها من الداعي المسلم من جهة أخرى.وقد لا نجانب الصواب إن قلنا إن من أبرز الثقوب التي تسلل منها الغزو الثقافي للحياة النسوية ثقب غياب المرأة الرسالية العارفة بهذه الأمانة الجليلة والصعبة، عن ساحة المعركة الفكرية والثقافية كما يشهد له الحضور المكثف لنساء الثقافة التغريبية في العالم العربي. من هنا ضرورة تشجيع حضور المرأة الرسالية في خطاب المواجهة والمراجعة الذي تشهده الساحة المعاصرة؛ حضور يجمع بين القلم واللسان، بين الكتابة والمنتديات والهيئات والجمعيات..، ليكون صوت الحق حاضراً بلسانها وقلمها في كل المنتديات والمناسبات، لا أن تقتصر وظيفتها على المعنى العام لقوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة}(التحريم : 6)، وإنما ينبغي لها أن تفهم وتدرك المعنى الشمولي لقوله تعالى : {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}(آل عمران : 104). فقيامها بواجب الدعوة خارج بيتها، بعد تحقيقه بداخله، يدخل ضمن العمل الصالح الذي حث عليه الإسلام قرآنا وسنة، وأثبته فعل نساء الرسول صلى عليه وسلم ونساء الكثير من الصالحين من هذه الأمة، فواجب الدعوة مقترن بواجب القيام بالعمل الصالح مصداقا لقوله جل جلاله : {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه  حياة  طيبة  ولنجزينهم  أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}(النحل : 97)، وقوله جل جلالـه : {فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى، بعضكم من بعض}(آل عمران : 195). وإني لأستغرب من غياب المرأة الرسالية بالحجم الذي ينبغي أن يكون بداخل هذه الأمة التي لا تفتقر إلى الثروة البشرية بقدر ما تفتقر إلى الهمم، وخاصة حينما أنظر حولي فأجد الكثيرات من المسلمات المؤمنات وحاصلات على شواهد عليا تخول لهن القيام بهذه المهام الجسيمة والمطلوبة، وكأني بالخمول وفلسفة التواكل قد سيطرت على الكثيرات منهن لأسباب نعرف بعضها وأخرى نجهلها، لكننا على يقين أن انخراطهن في هذه المعركة الحامية الوطيس سيسهم بشكل إيجابي في تقوية شوكة الأمة، في حين يظل غيابها غير المبرر عن هذه المعركة التي تكتفي فيها بدور المتفرج، من أبرز أسباب شيوع الصورة النمطية السيئة عن المرأة المسلمة التي تروج لها أقلام الإفساد العلماني بالعالم العربي، خاصة وقد استطاعت الكثيرات من نساء خطاب الحداثة تلميع صورة النموذج النسائي بما يكفي لترسيخه في أذهان النساء الأميات، أبجديا وثقافيا على حد سواء.

وإذا كنا نلح على ضرورة انخراط المرأة المسلمة في المجال الدعوي في المرحلة الراهنة إلى جانب الرجل الرسالي، ونعتبر ذلك من باب الواجب الذي به تكتمل الدعوة إلى الله، فإننا لا نقصد بذلك الانخراط المجرد من الفاعلية أو انخراط المشجعين، بقدر ما نقصد، على وجه التحديد، انخراط  الفعل الثقافي بمايكفي لسد ثغرات في الثقافة النسائية ظلت إلى الآن مجالاً فسيحا ترتع فيه أقلام مثقفات العلمانية العربية. إنه الانخراط الذي يسهم في إتمام مشروع النقد الذاتي القائم بدوره على فقه المراجعة قبل فقه المواجهة؛ مراجعة الذات بتصحيح الرؤية وتأصيل الفهم وتأسيس البديل الذي جمع بين الشرع والواقع معاً. فلا قدرة للرجل الداعي مهما امتلك من آليات وإمكانات معرفية ومنهجية، على التحدث باسم المرأة ومناقشة قضاياها الذاتية والاجتماعية فهي الكفيلة بسد هذه الثغرة الخطيرة، بقلمها ولسانها ومواقفها لتكون ندا للمثقفات العلمانيات اللواتي يتهمنها بالسلبية والخنوع وعدم الفاعلية التي تفقد المرء إنسانيته وآدميته.

وفي هذا السياق نلح مع الملحين على ضرورة توفير هذه الثروة البشرية الأساسية التي نرجو أن تتحول من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، فلا تنقصها الإمكانات ولا الإحساس بضرورة المشاركة في فعل البناء، ولكن ما ينقصها هو تلك الفاعلية والمشاركة المستديمة التي تتجاوز المناسبات والأحداث لتكون حاضرة وبكل قوة في الصراع الثقافي الذي تعيشه الهوية الإسلامية في المرحلة الراهنة، داخليا وخارجيا؛ وسيظل غيابها حجر عثرة في مسار الدعوة، وإننا واعون تمام الوعي بضرورة إشراك الرجل الداعية في تخريج هذه المرأة والأخذ بيدها لتكون عونا في معركة حضارية ما تخلى فيها طرف منهما إلا وضعف جسد الأمة.

لأنه جزء من الجهاد الذي حث الله عز وجل عليه في أكثر من موقع من خطابه إلى جيل المؤمنين من الدعاة رجالا ونساء من مثل قوله جل جلاله : {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك هم الصادقون} (الحجرات : 15) وقوله جل جلاله : {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين}(محمد : 32).

< ذ.عبد العزيز انميرات <

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>