إذا كانت الأسرة هي النواة الأولى للمجتمع، فإن صلاح المجتمع لا يكون إلا بصلاح نواته. لذلك نجد الإسلام قد وجه كل اهتماماته للعناية بالأسرة، التي تتكون من الأب والأم والأجداد والأقارب. فلفت نظر المربين إلى أهم ما يجب توخيه من المبادئ القوية لبناء الأسرة على أساس متين، فدعا إلى الزواج ورغب فيه، وأمر بتسيره، وإعانة من لم يتزوج من الرجال والنساء، لأنه الطريق السليم لإشباع الغريزة الجنسية ومنع إثارتها. قال تعالى : {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله}(النور : 32).
والله تعالى جعل قيام الأسرة المسلمة على ثلاث أسس : السكن، والمودة، والرحمة، فقال تعالى : {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}(الروم : 20).
وبالإضافة إلى هذه الأسس الثلاثة مجتمعة، فإنه ينبغي أن يتوفر كل من الزوج والزوجة على بعض الخصال الحميدة، كالكفاءة في الدين، والتقارب في الصفات الخلقية. قال صلى الله عليه وسلم : >تنكح المرأة لأربع : لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك>(رواه البخاري).
وللعلاقة الزوجية في الإسلام، قيمتها ووزنها، فهي ليست علاقة عابرة ولا مؤقتة، ولا صفقة تجارية، ولكنها علاقة إنسانية قائمة على أسمى قيم الحياة : السكن والمودة والرحمة وحسن المعاشرة. قال تعالى : {وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا}(النساء : 19). والمعاشرة بالمعروف أن يحسن كل من الزوجين للآخر، ويعمل على إرضائه، ويستجيب لرغباته المشروعة. قال صلى الله عليه وسلم : “خيركم خيركم للأهله، وأنا خيركم لأهلي” ابن ماجة.
ولا يكتفي الإسلامللمحافظة على العلاقة الزوجية بالوصايا فقط، بل أقام إلى جانب ذلك تنظيمات قانونية، وضمانات تشريعية، وفي مقدمتها الصداق الواجب للزوجة، والإنفاق عليها بقدر ما يسمح به دخل الزوج قال تعالى : {لينفق ذو سعة من سعته}(الطلاق : 7). وإيفاء الزوجة حقها من العفاف والصيانة، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : >إن أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة، الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه ثم ينشر سرها<(رواه الإمام أحمد).
وخلاصة الحقوق والواجبات المتبادلة بين الزوجين، أوجزتها عبارات جامعة وردت على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع، حيث قال : >أما بعد، أيها الناس : إن لنسائكم عليكم حقا، ولكم عليهن حقا : لكم عليهن أن لا يدخلن أحدا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإنما النساء عندكم عوان، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بهن خيرا<.
لقد عنى الإسلام بالأسرة عناية فائقة باعتبارها المجتمع الصغير، الذي يتكون منه المجتمع الكبير، ومن الطبيعي أن يكون لكل مجتمع من يشرف عليه، فكانت الرئاسة والقوامة في الأسرة للأب، وهذا ما قرره القرآن الكريم في قوله تعالى : {الرجال قوامون على النساء، بما فضل بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم}(النساء : 34). والقوامة ضرورية للأسرة، وذلك تمشيا مع سياسة التنظيم الاجتماعي التي جاء بها الإسلام. فليس إعطاء الرجل هذه الدرجة تحكما ولا آثرة، ولا أنانية، وإنما هي قوامة الحكمة والمصلحة التي لا يقصد بها تفضيل جنس على جنس، أو سيطرته واستبداده، فهي درجة تكليف لا تشريف. ومسؤولية الأب على أبنائه أول حلقة في سلسلة المسؤوليات التي بني عليها المجتمع الإسلامي، ذلك أن الطفل عندما يولد يولد وهو مطبوع بطابع الفطرة السليمة، قال تعالى : {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله}(الروم : 29). فيتحمل الأبوان معا مسؤولية تربية الأبناء، ووقايتهم من الهلاك والخسران في الدنيا والآخرة، والاهتمام بتعليمهم وتأديبهم وأخذهم بتعاليم الإسلام السمحة، قال صلى الله عليه وسلم : >ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، وينصرانه، كما تنتجون البهيمة هل تجدون فيها من جدعاء حتى تكونوا انتم تجدعونها<(رواه البخاري). وتأتي أولى المسؤوليات في إطار التربية الصحيحة القائمة على المنهج الذي رسمه الإسلام، تدريبهم على أداء فرائض الدين وسننه وآدابه، امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم : >مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع<(أحمد وأبو داود). لأن الصلاة كفيلة بتهذيب الطفل ظاهرا وباطنا. والله تعالى يقول : {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}(العنكبوت : 45).
والأب يجب أن يعدل بين أبنائه في ماله ورعايته وعطفه، لأن الحيف في هذه الأمور من شانه أن يغرس الحقد في نفوس الإخوة، عن النعمان بن بشير أنه قال : أن أباه بشيرا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني نحلت ابني هذا -أي أعطيته- غلاما كان لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : >أكل ولدك نحلتهم مثل هذا؟ قال : لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فارتجعه<(متفق عليه).
والرحمة بالأبناء ومحبتهم والعطف عليهم غريزة في الإنسان، فهذا رسول الله عليه والسلام يضرب لنا مثلا في محبة الأطفال ومداعبتهم، عن أبي قتادة رضي الله عنه، قال : >خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه، فصلى، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع رفعها<(رواه البخاري). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسا، فقال الأقرع : إني لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا. فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال : >من لا يرحم لا يرحم<(رواه البخاري).
والزوجة داخل الأسرة تستشار ويؤخذ برأيها متى كان صالحا للأسرة موافقا للشريعة، ولنا في أزواج رسول الله القدوة الحسنة في ذلك، فهذه أمنا أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم يدخل عليها يوم صلح الحديبية، ويقول : “هلك المسلمون يا أم سلمة، أمرتهم فلم يمتثلوا” البخاري وأحمد. فقالت له : أخرج ولا تلوي على أحد، فتبدأ بما تريد، فإذا رأوك فعلت تبعوك، فانشرح صدره صلى الله عليه وسلم. فقام إلى هديه فنحره، ودعا بالحلاق فحلق رأسه فتبعه في ذلك المسلمون. وكان رأي أم سلمة رأيا سديدا وفتحا عظيما.
وفي الوقت الذي يؤكد فيه الإسلام على حقوق الأبناء على الوالدين، يؤكد أيضا على حقوق الوالدين على الأبناء، ومن أروع الوصايا التي تحدد آداب السلوك مع الوالدين ما جاء في قوله تعالى : {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما، وقل لهما قولا كريما} (الإسراء : 23).
وفي وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه حيث جاءه يسأله : >من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله ؟ قال : أمك، قال : ثم من ؟ قال : أمك. قال : ثم من ؟ قال : أمك. قال : ثم من ؟ قال : أبوك<( البخاري). والذي ينبغي لفت النظر إليه أن تخصيص الأم بهذا التشريف، لا يحط من قيمة الأب في نظر الإسلام، فكلاهما في التكريم والتقدير سواء، غير أن الأم منحت جانبا زائدا من هذه الوصايا، لما تتصف به من حنان كبير وعاطفة مفرطة.
وعقوق الوالدين من أكبر الكبائر في الإسلام، قال صلى الله عليه وسلم : >ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا : بلى يا رسول الله، قال : الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس، فقال : ألا وقول الزور، وشهادة الزور، ألا وقول الزور، وشهادة الزور<( البخاري).
ومن مظاهر العقوق، عدم رعايتهما، ومساعدتهما، وهجرهما، وعدم زيارتهما والتسبب في سبهما. قال صلى الله عليه وسلم : >إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه. قيل يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه ؟ قال : يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه ويسب أمه<(رواه البخاري).
والإسلام عندما أمر بالإحسان إلى الوالدين، أمر كذلك بإعطاء ذوي الرحم حظهم من العناية، والإحسان إليهم، ودفع الضرر عنهم، وعدم ظلمهم، لأن ذلك يؤدي إلى التحاسد والتباغض، كما جعل قطيعتهم من أكبر الكبائر. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : >إن الله خلق الخلق، حتى إذا فرغ من خلقه، قالت الرحم : هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال : نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك ؟ قالت : بلى يا رب. قال : فهو لك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقرؤوا إن شئتم {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم}(محمد : 63)<(رواه البخاري).
فالمسلم يلتزم لأقاربه وذوي رحمه بنفس الآداب والحقوق التي يلتزم بها لوالديه وولده وإخوته، كل ذلك تمشيا مع توجيه القرآن. قال تعالى : {واتقوا الله الذي تسالون به والأرحام” النساء 1. وقوله تعالى : “وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله}( الأحزاب : 6).
الأسرة في الإسلام ليست كما يريده لنا الغربيون، ومن سار على نهجهم من العلمانيين، لأن الأسرة عندهم في الغرب قد انقرضت أو كادت، وتحللت من كل القيود والضوابط الخلقية، والروابط الاجتماعية، والعلاقات الزوجية والأسرية. أما الأسرة المسلمة -عندنا- ما تزال -والحمد لله- متماسكة متميزة، محافظة قائمة على أحكام الشريعة الإسلامية، والحمد لله على ذلك {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون}( التوبة : 32).
ذ.حسني احمد عاشور