مدونة الأحوال الشخصية بين محاولتي التطوير والتعطيل


ازدادت حمى انتقاد مدونة الأحوال الشخصية بوتيرة متصاعدة منذ فتنة الخطة. ولم يعد خافيا على أحد ما للخطة من دوافع لأنها جاهرت وبكل وقاحة بتعطيل بعض فصول المدونة خاصة ما تعلق بالولاية والتعدد والقسمة والطلاق، وهو تعطيل يروم أساسا علمنة المجتمع في أحواله الشخصية بعدما علمن في شتى مناحي الحياة.

ولا سبيل إلى هذه العلمنة سوى قلب ظهر المجن للإسلام مع اعتماد سبل التمويه واللف والدوران اتقاء لعواطف الأمة الدينية. ولقد دحر مرارا أصحاب فكرة التعطيل بعبارة مشهورة مفادها أن الحاكم المسلم لا يمكن أن يحل حراما أو يحرم حلالا ولكنهم لم يستوعبوا هذه العبارة أو بالأحرى قد رغبوا عن سماعها ومضوا في النفخ في جمرة التعطيل لتأجيج نار العلمنة. ولقد عاد مؤخرا الحديث إلى فكرة التعطيل الملبسة بالتطوير بعدما جمع للتطوير جمهور كثير من الإناث والذكور، أفرادا وجماعات، أحزابا وهيئات تجمعهم الوطنية الواحدة ولكن قد تفرقهم القناعات المختلفة والله عليم بما تخفي الصدور. ولقد استشرت من طرف سيدة فاضلة استشيرت بدورها من طرف من دعي إلى النظر في المدونة، والسيدة حريصة على تنويع مصادر استشارتها عملا بمبدأ من شاور غيره شاركه عقله وخير من ذلك ما ندم من استشار فأدليت بدلوي في موضوع لا يليق بمتأدب مثلي ولكن عذري أن الجمهور المنكب على دراسة المدونة فيه من لا فقه له ولا أدب وان همه تعطيل بعض آليات القرآن، ونصوص الحديث. وعذري بعد ذلك أن استشارتي مجرد استشارة مواطن كباقي المواطنين كانت بيني وبين السيدة الفاضلة وارتأيت نقلها إلى الرأي العام عبر منبر الصحافة الملتزمة.

إن الناظر في الأحوال الشخصية عندنا يلاحظ أنها كانت موكولة إلى كتب الفقه الإسلامي المالكي منذ دخول الإسلام أرض المغرب. وما تاريخ22 نفمبر سنة 1957 إلا محاولة تقنين لهذه الأحوال في فصول وضعت على عجل من طرف صفوة من رجال العلم والفقه تيسيرا على الأمة، وإلا فالأمة قادرة بحكم تدينها على تحكيم شرع الله في أحوالها الشخصية دون كراسة هذه الأحوال. ولقد مضى على الكراسة ما يزيد عن ثلاثة عقود دون التفكير في إضافة جهد إلى جهد الصفوة الأولى من رجال العلم، إلا ما كان سنة 1993 بعدما تعالت أصوات نسائية تضمر التعطيل وتظهر التطوير بدعوى التظلم. وأمر التطوير لا عيب فيه ولا خوف منه لأن الرصيد الفقهي الإسلامي حافل بما يحقق هذا التطوير إذا ما روعيت قاعدة الحلال والحرام، والسؤال المطروح هل تحتاج المدونة إلى مثل هذا التطوير أم أن القضية تتعلق بتحقيق مصالح لفائدة شرائح معينة لأن تعديلات سنة 1993 تشم منها رائحة الاستجابة لمظلمة أنثوية يخشى ان تؤدي إلى مظلمة ذكورية تفتح حلقة صراع بين الجنسين لا يعرف طرفاها.

ولعلاعتماد المدونة على فقه مذهب واحد إلا ما كان من أمر الفصل 28 يوجب التساؤل التالي ألا يوجد من التيسير في فقه المذاهب الأخرى ما تنتفع به الأمة في أحوالها الشخصية ؟ وإذا ما اعتمدت المذاهب المختلفة ألا يفضي ذلك إلى فوضى تشريعية لأن تيسير هذا المذهب عند طائفة قد يكون تعسيرا عند طائفة أخرى والعكس صحيح أيضا.

لقد جاء الفصل الرابع من المدونة ببائقة عندما أشار إلى منع العمل بغيرها منذ تاريخ صدورها وأسقط من حسابه تراثا فقهيا عظيما تحفظه الأمة كما تحفظ كتاب ربها عز وجل، وإذا ما تصفحنا المدونة قد تطالعنا بعض الفصول بما يستوجب الوقوف بنية التطوير لا بنية التعطيل. وفيما يلي بعض الملاحظات المسجلة بخصوص بعض الفصول والله اسأل السداد. إن اعتبار الفصل الثاني من كتاب النكاح الخطبة مجرد وعد بالزواج، يجعل أمرها عرضة للعبث دون مراعاة الحديث (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد) وقد يغري البعض بالتراجع عن الوعد لإلحاق الضرر بهذا الطرف أو ذلك لهذا أرى ألا تتساهل المدونة في أمر الخطبة تماما كما هو أمر الطلاق الذي ينعقد لفظا وإشارة وكتابة وتترتب عنه حرمة ينفسخ بموجبها رباط الزواج. وأعتقد أنه لا مبرر لفسخ خطبة دون مبرر شرعي مقبول.

وإن الفصل السادس من المدونة في مجال النكاح يتضمن ما يمكن اعتباره تناقضا مع الفصل السابع، فالأول يشترط العقل في الزوجين والثاني يبيح زواج المجنون والمعتوه. كما أن الفصل السادس يناقض الفصل التاسع في شرط البلوغ إذ يبيح الفصل التاسع زواج غير الراشد لهذا لا بد من تقييد البلوغ بالأهلية والباءة والكفاءة.

وإن الفصل الخامس يغري بالاستغناء عن الولي ما دام لا يملك الإجبار، كما يغري بذلك عندما يخول للقضاء تجاوز رأيه فالولاية وصاية عاقلة ملتزمة بشرع ربها لا سبيل لإسقاطها دون مبرر شرعي مقبول. والولاية لابد أن تكون حقا يمارس كما نص على ذلك الحديث ولا عبرة بالاستثناء كما هو حال من لا ولي لها من النساء وإلا فكل المتزوجات راشدات يحق لهن الاستغناء عن الولاية إذا ما أخذنا بمنطق تجاوز القضاء للولاية.

وإن الفصل الرابع يرجع الكفاءة إلى العرف لا يراعي مصدرا أوثق وأسبق منه وهو الحديث.

ولعل الفصل الخامس عشر الذي يعطي المرأة وحدها حق التناسب العرفي في السن، لا يراعي حق الرجل ذلك أن الآية قد تقلب لأسباب مادية أو معنوية في هذا العصر لذا لابد من سد هذه الثغرة صيانة لهذا الحق بين الجنسين. والفصل السابع عشر بقدر ما يصون كرامة المرأة بعدم تحديد قيمة المهر فإنه لا يراعى ظاهرة غلاء المهور التي باتت مقوضا من مقوضات الحياة الزوجية لذلك لابد من عبارة ترغيب في تيسير المهور عملا بالحديث الشريف.

والفصلان الثامن عشر والتاسع عشر اللذان يمنعان غير الزوجة من التصرف في مهرها يغيبان ما نص عليه القرآن من تنازل من قبل المرأة عن مهرها أو بعضه عن طيب خاطر.

وأن الفصل التاسع عشر الواضح فيما يخص تحريم زواج المسلمة من غير المسلم يبقى ناقصا دونما تنصيص على تحريم زواج المسلم من غير المسلمة ما لم تكن كتابية مع ملاحظة جوهرية ههنا يعكسها التساؤل التالي هل تعبر المثلثة أي القائلة بالثالوث الصليبي كتابية ؟؟

وإن الفصل التاسع والعشرين الذي يصون عصمة الزوج ويمنع زواج امرأته من غيره لا يراعي حالات الإهمال والغياب التي تتوخى حرمان الزوجة من الزواج بآخر.

وإن إشارة الفصل الثلاثين إلى إمكانية رفع الزوجة دعوى ضرر إلى القضاء في حال التعدد الذي لم تشترط عدمه على زوجها لا معنى لها ولا مبرر لها.

وإن اشتراط الفصل الواحد والأربعين إذنا من القضاء بالتعدد ضرب من الحيف وعائق يحول دون حق شرعي لذا لابد من مراجعته دفعا لظاهرة الزواج السري والسفاح.

وإن حديث الفصل التاسع والأربعين عن طلاق السكران لا مبرر له إذ لا يصلح زواجه أصلا كما يذهب إلى ذلك الأحناف، وعن الفصل الخمسين الذي لا يدرج اليمين ضمن ألفاظ الطلاق قد يوقع في المحضور.

وإن حديث الفصل الرابع والخمسين عن التطليق للعيب الخلقي -بتسكين اللام- دون الحديث عن العيب الخلقي -بضم اللام- يشكل خللا في التشريع.

وإن سكوت الفصل السادس والخمسين عن قرار القضاء بالتطليق بعد فشل التحكيم يوحي بالتعليق والضرر لذا لابد من تنصيص على التطليق.

وإن إشارة الفصل الثامن والخمسين إلى وجوب التطليق في حال غياب الوطء لمدة أربعة أشهر بالنسبة للزوجة تتضمن عيبا لأنها لا تشير إلى طلاق في حال امتناع الزوجة عن الفراش لنفس المدة.

وإن الفصل الواحد والستين ينص على التراضي في الخلع وهو امر مستحيل لذا لابد من إقرار الخلع مع شرط تحقق الضرر وشرط الرضى بالتعويض.

وإن تنصيص الفصل التاسع والتسعين على سقوط الحضانة بسبب زواج المرأة من آخر من دون التعرض لحالات انعدام الكفاءة في الزوج الأول يعتبر مضرا بمصلحة الزوجة التي تخير بين زواج وحضانة هي خاسرة فيهما معا.

وإن اشتراط الفصل التاسع عشر بعد المائة إسكان الزوج الضرتين معا بعد رضى الأولى ضرب من التعجيز قد يوقع في الزواج السري أو السفاح.

هذه بعض الملاحظات التي تعن لغير المتخصص في الأحوال الشخصية والمراد تطويرها لا تعطيلها كما تحلم بذلك الدعوات العلمانية المشبوهة.. ولعل ترك باب الاجتهاد في المدونة مشرعا لمن يحق له ذلك وفق تعاليم الإسلام أمر لا يجادل فيه إلا مكابر. ولكن ترك الحبل على الغارب نزولا عند رغبة دعوات هدامة لأركان الدين جريمة نكراء تأثم الأمة برمتها إن لم تحاربها في هذا الظرف الدقيق.

ذ. شــركـي محمد

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>