نصوص متجددة : الرأي، والهوى


لم يلق الأنبياء والمرسلون، ولا الهداة والمصلحون من المشقة والعنت، مثلما لقوا من أصحاب الهوى وذويه!!

ذلك أن الهوى لا يعرف المنطق، ولا يأبه بالحقيقة، ولا يصغي لبرهان.. بينما يتوسل المرسلون والمصلحون لإبلاغ دعوتهم بالمنطق، وبالحقيقة، وبالبرهان.

وأهل الهوى كالزئبق، لا يستقرون على أمر، ولا يثبتون على رشد فأهواؤهم المتقلبة دوما، والمتواثبة أبدا، تجعلهم في حركة رجراجة يتقافزون كالقرود! ليس لهم رأي ولا اقتناع -تقلبهم أهواؤهم ذات اليمين وذات الشمال، فيمسون على هوى، ويصبحون على هوى آخر. تقودهم أهواؤهم كما تقود عصى الرعاة الأغنام والخنازير..!!!

üüü

ووجود الهوى مؤشر صادق على وجود نفس خبيثة، وقلب مريض!!

وإذا استحوذت هذه النفس، وهذا القلب على إنسان، فإنه ينسى ربه، فينسيه الله نفسه {نسوا الله فأنساهم أنفسهم}.

ومـــــــــن البلاء، وللبلاء علامة  <<  ألا يـرى لك عن هواك نزوع

العبد عبد النفس في شهواتها  <<  والحر يشبع تارة ويجوع!!

وخطيئة الهوى لا تدفعنا إلى الذنوب التي تجافى العبادة فحسب. بل تدفع إلى كل ما يسول الهوى ويريد. في شئون الدنيا، وطريق الدين..

وما أصدق وأحذق >ابن القيم< رضي الله عنه، إذ يقول : >إن الهوى ما خالط شيئا إلا أفسده.. فإن وقع في -العلم- أخرجه إلى البدعة والضلالة..

وإن وقع في -الزهد- أخرج صاحبه إلى الرياء، ومخالفة السنة.. وإن وقع في -الحكم- أخرج صاحبه إلى الظلم، وصده عن الحق.. وإن وقع في -القسمة- خرجت عن قسمة العدل، إلى قسمة الجور.. وإن وقع في الولاية والعزل- أخرج صاحبه إلى خيانة الله والمسلمين حيث يولي بهواه، ويعزل بهواه.. وإن وقع في العبادة، خرجت عن أن تكون طاعة وقربة وهكذا، ما خالط الهوى شيئا إلا أفسده…!!

üüü

إذن، ففي الدنيا كما في الدين، وفي السياسة كما في العبادة يضل الهوى ويردى ويلقي بالأيدي  إلى التهلكة والوبال!!

وحين تجد الصدود عن الحق، فاعلم أن الهوى هناك!! من أجل ذلك، فتح الله -سبحانه- بصيرة رسوله على هذه الحقيقة، فقال له : {فإن لم يستجيبوا لك، فاعلم أنما يتبعون أهواءهم}.. وحذره وهو المعصوم، فقال : {ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير}.. ووصاه قائلا : {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا،واتبع هواه، وكان أمره فرطا}.

ولا تصاب الأمم بشر ما يمزقها إلا حين يسود الهوى.. ويغيب الرأي!!

وإذا وضعنا >الرأي< مقابل >الهوى< فإننا نعنى ذلك الاقتناع الذي يستمسك صاحبه بعراه بعد درس وتمحيص وانتقاء.. وهذا هو >الرأي< كما يراه الإسلام. فلطالما كان الرسول صلى الله عليه وسلم وكان خلفاؤه رضي الله عنهم يقولون للناس : ماذا ترون؟؟ وكان الإمام >أبو حنيفة< رضي الله عنه يقول : >فقهنا هذا رأي.. فمن جاءنا بأحسن منه قبلناه< وهو يعني -طبعا- اجتهاداته واستنباطاته فيما لم يحكم به نص صريح..

إن الآراء البازغة من عقول رشيدة -لا الأهواء الزائفة- تضع الحاكم، والشعب، كما تضع كل قوى المجتمع على طريق الفضيلة والحق..

وإذا رأيت أمة يكبت فيها الرأي، فاعلم أن الهوى بما يفرز من باطل وضلال قد شاد بنيانه، وبسط سلطانه!!!

وحياة الأمة -أية أمة- مرهونة سلامتها، ومرهون مصيرها بكثرة ما تمتلك من آراء نزيهة صادقة، وبحظها الأوفى من أحرار القلوب، الذين لهم أعين يبصرون بها. وآذان يسمعون بها، وعقول يفقهون بها، وبالتالي فإن لهم آراء يسهمون بها في هداية حكامهم إلى الحق، وتنوير شعوبهم في كل قضايا الحياة -سياسية، واقتصادية، واجتماعية..

والمسلم حقا، هو من يكون له رأي لا يكتمه، واقتناع لا يلجمه!!

قد هيأوك لأمر لو فطنت له

فاربا بنفسك أن ترعى مع الهمل!!

والحاكم الحصيف والرشيد بحق، هو من ينمي في شعبه سلطان الرأي، ويرفض نفاق الهوى وضلاله..

يقول شيخنا الجليل >ابن القيم< : >هناك حاكمان : حاكم العقل، وحاكم الدين، فمن حاكم أمامهما هواه، فقد نجح وفاز<!!.

üüü

ما أشد حاجة شعوبنا المسلمة إلى أن يكون لها رأي.. وأن يكون لهذا الرأي ما يستحق من توقير واحترام..!!

<  خالد محمد خالد

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>