فضاءات دعوية : توسيع القاعدة (1)


في مرحلة من مراحل المسيرة يأتي دور توسيع القاعدة، عن طريق توجيه الدعوة للجماهير، وهذه المرحلة يمثلها في حياة الجماعة الأولى، جماعة الرسول صلى عليه وسلم، دخول أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب في الإسلام، بعدما كانت القاعدة الصلبة قد تم بناؤها من المهاجرين والأنصار رضوان الله عليهم، وهؤلاء هم الذين قال الله عنهم : {ما كان لأهْل المدينة ومن حولهم من الأعْراب أن يتخلّفوا عن رسول الله ولايرْغَبوا بأنْفسهم عن نفْسِه}(التوبة : 120).

وهؤلاء جنود وأعوان، اجتذبتهم الدعوة فدخلوا فيها، وأخلصوا لها، وجندوا أنفسهم للدفاع عنها ضد أعدائها، وليسوا مجرد جماهير منفلتة بلا ضابط، كالذين تسميهم الجاهلية المعاصرة “رجل الشارع”، وهي تسمية صادقة، ما أدري إن كانت جاءت عفواً أم جاءت عن قصد! فرجل الشارع هو الإنسان الذي ليست له سمات محددة ولا موقف محدد، ولا اتجاه فكري ثابت! أو هو الإمّعة الذي وصفه رسول الله في قوله : >لا تكونوا إمّعة، تقولوا : إن أحسن الناس أحسنّا، وإن أساءوا أسأنا! ولكن وطّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أو أساءوا ألا تظالموا<(رواه الترمذي).. هو الرجل الذي تصنعه وسائل الإعلام، ثم تعود إليه، بعد أن تصنعه بوسائلها(1)، فتسأله عن موقفه، فيكون موقفه بالضبط هو ما أرادته وسائل الإعلام!

ليس هؤلاء الذين توسّع بهم القاعدة في المرحلة الأولى من البناء، ولا في أي مرحلة من مراحلها! إنما تُوسّع بجنود مخلصين، يهبون أنفسهم للدعوة، ينافحون عنها بتوجه مخلص إلى الله.

فإذا سأل سائل : ما الفرق إذن بينهم وبين القاعدة الصلبة التي تحدثنا عنها من قبل؟ نقول في ايجاز : إن القاعدة الصلبة هي التي تعدّ لتكون الركائز والدعائم، هي القادة، هي الموجهون، هي المربون، أما هؤلاء فهم المدعوون الذين استجابوا للدعوة، والتزموا بها، وانضووا تحت لوائها، فصاروا منها، يتحركون معها ويتحركون بها، ولا يقفون متفرجين، ينتظرون ليروا من الغالب ليتبعوه!

وإذا سأل سائل مرة أخرى : ما الفرق في منهج التربية، وفي الرعاية والعناية بين إعداد القاعدة الصلبة وإعداد من توسع بهم القاعدة في تلك المرحلة، نقول بإيجاز : إنه فرق في الدرجة لا في النوع. فالمعلم يوجه تعليمه للدارسين جميعاً من حيث المبدأ، ولكنه يخص المتفوقين بعناية خاصة، لأن استعدادهم أكبر، والمطلوب منهم أكثر، ولا يقبل منهم ما يقبله من الدارس العادي الذي يقف به استعداده عند مستوى معين، ولا يكلفه فوق طاقته، وإن كان النجاح مطلوباً من الجميع، كل بحسب درجته.

فإن قال قائل : هل هناك حدود فاصلة تميز هؤلاء عن هؤلاء؟ ألا يمكن أن يوجد في القاعدة الموسعة من تؤهله طاقاته واستعداداته أن يكون من القادة الموجهين، ويوجد في القاعدة الصلبة من تقعد به طاقاتهواستعداداته عن القيام بتكاليفها؟ نقول : بلى! إن هذا يمكن أن يحدث، وعندئذ يرتفع -أو يجب أن يرتفع- صاحب المواهب إلى منزلة القادة الدعاة المربين، ويتخلف من تقعد به إمكاناته فيصبح مجرد عضو عادي، وتلك مسألة يقدرها المسئولون عن العمل باجتهادهم، وقد يخطئ الاجتهاد وقد يصيب.. إنما المهم من حيث المبدأ أن بناء القاعدة الصلبة يجب أن يوجه إليه أقصى الجهد، وأن يحظى بأكبر قدر من الرعاية والاهتمام، فإقامة الدعائم الرئيسية يختلف ولا شك عن إقامة اللبنات التي يتكون منها البناء، وإن كان هذا وذاك مطلوبين لتشييد البناء، وتلك من بدائه العمل التي لا تحتاج إلى إيضاح.

إنما نريد أن نركز هنا على أمر له أهميته : إن توسعة القاعدة بالأعوان الملتزمين، الذين يعتبرون أنفسهم جنوداً للدعوة، يأتي بعد تكوين القاعدة الصلبة، لأن المتلقين بداهة يحتاجون إلى موجهين! فإذا دعوناهم وجاءوا، ونحن لم نعدّالموجهين بعد، فمن الذي يوجههم؟!

وأمر آخر نريد أن ننبه إليه: أن وسيلتنا البديهية إلى توسعة القاعدة -حين يأتي دورها- هو الدعوة العامة التي توجه لكل الناس، الذين يسمون في لغة العصر “بالجماهير”. ولكن الجماهير ليسوا على درجة واحدة من الاستجابة للدعوة.. فمنهم فريق يمكن -حين تصله الدعوة واضحة صافية على حقيقتها- أن يؤمن بها إيماناً صادقاً، ويجند نفسه لها، مبتغياً وجه الله، عاملاً على رضاه.. ومنهم فريق يحسب حساب “المصالح”، حساب الربح والخسارة.. ماالذي يمكن أن يكسبه من الانضمام للدعوة، وما الذي يمكن أن يخسره من جرائها.. ومنهم فريق لا يهمه إلا اتباع الغالب حين تتقرر غلبته، فهو يقف بعيداً عن المعمعة، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ينظر ويتفرج، وقد يتسلى بالفرجة وتتبع أخبار الصراع، حتى إذا تقررت الغلبة بوضوح لأحد الفريقين انحاز إليه، لا إيماناً بمبادئه، لا تحمساً حقيقياً لها، ولكن لثقل الأمر الواقع في حسه، فهو بتركيبته النفسية، مستعد أبداً للانقياد للأمر الواقع، الذي يأخذ في حسه مساحة أكبر من الأمر الذي لم يقع بعد، والذي يحتاج إلى جهد لكي يتحقق، بينما الواقع بالفعل لا يحتاج إلى جهد لمسايرته، وهذا الفريق غير مستعد، بتركيبه النفسي، لبذل الجهد، وخاصة إذا كان الأمر يعرضه للأخطار، لذلك لا يستجيب للدعوة حتى تصبح غلبتها هي “الأمر الواقع” الذي لا تحتاج مسايرته إلى شيء من الجهد، ولا التعرض للأخطار.

هذه الفئات بأنواعها الثلاثة، توجد في كل مجتمع، وقد كانت موجودة في مجتمع الرسولصلى عليه وسلم.

فالفئة الأولى يمثلها مجتمع المدينة الذي آمن إيماناً صادقاً وجنّد نفسه للدعوة، مهتدياً ومقتدياً بالقاعدة الصلبة التي تأسست من المهاجرين والأنصار. وهي الفئة التي أشارت إليها الآية الكريمة : {والسّابقون الأولون من المُهاجرين والأنصار الذين اتّبعُوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جنّاتٍ تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوْز العظيم}(التوبة : 100).

ويدخل فيهم الأعراب الذين آمنوا بصدق، والذين أشارت إليهم الآية السابقة : {ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتّخذّ ما يُنفِق قرباتٍ عند الله وصلوات الرسول ألا إنّها قرْبة لهم سيُدْخِتهم الله في رحمته إن الله غفُور رحيم}(التوبة : 99).

والفئة الثانية هي التي تألفها رسول الله صلى عليه وسلم بالعطايا وبالمنح، وبالتقريب منه صلى عليه وسلم، والتي أشارت إليها الآية الكريمة : {إنّما الصّدقَات للفُقَراء والمسَاكِين والعامِلين عليها والمؤَلّفة قُلُوبهم}(التوبة : 60).

أما الفئة الثالثة فيمثلها مسلمو الفتح، الذين أسلموا لما تقررت غلبة الإسلام في فتح مكة، مع أنهم كانوا يعرفون أن الحق مع رسول الله صلى عليه وسلم، ولكنهم يقولون : كما حكى عنهم القرآن الكريم: {وقالُوا إن نتّبع الهُدى معك نُتخطّف من أرْضنا}(القصص : 57). فلما صار الهدى هو الممكن في الأرض اتبعوه، ودخلوا في دين الله أفواجاً كما جاء في سورة النصر : {إذا جاء نصر اللّه والفَتْح ورَأَيْت النّاس يدخُلُون في دين اللّه أفواجاً فسَبِّح بحمْدِ ربّك واستغفره إنّه كان تواباً}(سورة النصر).

وذلك بخلاف المنافقين الذين يظهرون بعد استتباب السلطان، والذين يكونون قبل ذلك بين المتفرجين المنتظرين ، ولكن على كُره للأمر، وعدم رغبة في الدخول فيه، أو من المعارضين الذين يجبنون عن المواجهة الصريحة، فينافقون خوفاً وجبناً.

إذا كانت هذه فئات المجتمع -كل مجتمع- فلأى هذه الفئات نوجه الدعوة في المرحلة الأولى من توسيع القاعدة؟ إننا نظريّا نوجه الدعوة لكل الناس، ولكننا في حقيقة الأمر نتوقع الاستجابة من فريق معين من الناس، فنركز عليه الدعوة، أو نعتقد أن اعتزاز الدعوة وتمكنها سيكون على يد فريق معين من الناس، فنركز الدعوة عليه.

1- من أشد الوسائل تأثير الصحافة والإذاعة والتليفزيون، وكلها تستخدم في صياغة عقلية “رجل الشارع” وتوجيه اهتماماته!

ذ.محمد قطب

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>