يستطيع كل قارئ للنصوص والتوضيحات التي أوردناها في العدد 161 عن نسب الرسول أن يستنبط بنفسه فوائد كثيرة، وهذه بعض الفوائد التي يجدر بالقارئ أن يتنبه إلَيْهَا :
تبشير آمنة بالحمل المبارك : جاء في السيرة أن آمنة حين حملت قيل لها: >إنك قد حَمَلْتِ بسِّيدِ هذه الأمة < هذا القول من نوع الإلهام الذي يلقى في القلب أو يُسمع في اليقظة أو يُرى في المنام، وقد تقدم في أم موسى \ أن اللَّه قال فيها: {وَأَوْحَيْنَا إلى أمِّ مُوسَى} فالوحي لأم موسى كان تطمينا لها على مصير ولدِها حتى لا تحزن، والقَوْلُ لآمنة بنت وهب أيضاً تطمينٌ لها على مصير حَمْلها الـمُيَتَّم قَبْل الخروج للدنيا، حتى لا يبقى في نفسها حُزْنٌ على موت أبيه بعد أن فُدِيَ بكذا وكذا من النوق. ولهذا لم يذكر لها كُتاب السير أنها فَعَلَتْ ما يخدش المروءة من الحُزْنِ المبالغ فيه على موت الزوج رغم مكانته في نفسها(1)، بل كانت نِعْم الصابرة المحتسبة، بعد أن أقَرَّ اللَّه عَيْنَها بالحَمْل المبارك، وبَشَّرها بمنزلته العظيمة، فأصبح هذا الحمل بالنسبة إلَيْهَا فوق الزوج، وفوق كل محبوب، وفوق كل شيء في الوجود.
والذي يستفاد بوضوح من الرؤيا المبشرة لأم النبي صلى الله عليه وسلم هو أن اللَّه تعالى أنزل على النبي الخاتم قرآنا يبشر كل مؤمن بِتَيْسِير أمْرِهِ إذا اتقى اللَّه تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ مِنَ امْرِهِ يُسْراً} -سورة الطلاق: 4-.
تعويذ المولود خير تحصين له من الآثام والشرور: جاء في السيرة أن قائلا قال لآمنة : > فإذا وقع -الحمل- إلى الأرض فقولي: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد< لأن النبات التي يُرْجَى له الحُسْن والصلاح ينبغي أن ينبُت في كَلَأِ اللَّه ورعايته، فذلك هو حِصْنُه وملاذه، وهذه التعويذة سنة الصالحين من القديم، فهذه امرأة عمران عليهما السلام عندما وضَعَتْ ابنتها مريم عليها السلام قالت: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} -سورة آل عمران: 36- فلهذا كان من الآداب المميزة للمسلمين عند قُدوم المواليد : أنْ يُؤَذِّنُوا للصبي أو الصبية في الأذن اليمنى، ويقيموا في الأذن اليسرى، ليكون الذِّكْرُ أول شيء يطرق سمعه، وبذلك ينشأ بإذن اللَّه تعالى محفوظا من شياطين الإنس والجن، فإذا أصبح عبداً صالحاً شمله الحِفْظ الرباني المكفول لعباد اللَّه {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} -الإسراء: 65-. بل إنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم حَثَّ المسلمين على تحصين المولود حين العَزْمِ على الحرث والمباشرة، عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أَمَا لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَقُولُحِينَ يَأْتِي أهْلَهُ: بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّب الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا. ثُمَّ قُدِّرَ مَا بَيْنَهُمَا فٍي ذَلِكَ، أوْ قُضِيَ وَلَدٌ، لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ أَبَداً) رواه البخاري ومسلم(2) -لأن إبليس- لعنه اللَّه تعالى، أخَذَ الإِذْنَ من اللَّه تعالى بأن يَسْمَحَ له بمشاركة بني آدم في أموالهم وأولادهم، إِلاَّ عباد اللَّه المخلصين فقد عَصَمَهُم اللَّه تعالى منه: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجْلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالْأَوْلاَدِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهَمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} -سورة الإسراء: 64 – 65-.
ولكن اللَّه تعالى -رحمة بالإنسان الضعيف- لم يتركه في قبضة الشيطان بدون حصانة، بل أنزل في كتابه (المُعَوِّذَتَيْنِ) اللَّتَيْنِ تكفيان المسلم المتعوِّذ بهما من كل شيء، إذا قرأهما في الصباح وفي المساء، وهما: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ}، وَ{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، فقد روى الترمذي عن عتبة بن عامر الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد أنزل اللَّه علي آيات لم ير مثلهن “َقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس” إلى آخر السورة. و”قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ” إلى آخر السورة). وذكرت عائشة رضي اللَّه عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى قرأ على نفسه بالمعوِّذتين ويَنْفُثُ، فلما اشتد به وجَعُهُ كُنْتُ أقرأ عليه، وأمْسَحُ عنه بِيَدِهِ رجاء بركتها.}(3)
يكتبها :
ذ. المفضل فلواتي
——-
1- لقد رُوي لآمنة شِعْرٌ ترثي به زوجها، ولكنه شعر باكٍ بكاءً لا يخرج عن دائرة الحزن المشروع. انظر: السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة لـ: د. محمد أبو شهبة 1/166.
2- انظر تحرير المرأة في عصر الرسالة 6/154.
3- الحديث الأخير رواه البخاري ومسلم. انظر الجامع لأحكام القرآن و20/252، 253.