الأمم الحية تنهض بمقوماتها، وتُذْكر بمحامدها ومزاياها، ويخلُد أثرها بالرسالة التي تنفع بها الإنسانية نفعا عاما شاملا يُبَيّضُ الوجوه يوم تسوَدُّ الوجوه وتُخْزى وتُلْعَنُ.
ولا توجد أمة على وجه الأرض تملك هذه الرسالة غير الأمة الإسلامية، لأنها من الوحي الرباني نبتَتْ، ومن الوحي الربانيّ تتغذى وتتزود، وللهداية الربانية تدعو، إمامُها وقدوتُها في كل خطوة تخطوها لإصلاح جوهر الإنسان خاتمُ الأنبياء والرُّسل الذي ورّثه الله تعالى جميع النماذج الدعوية التي سبقه بها الهداة المرسلون.
والرسول صلى الله عليه وسلم لم يورّث هذه الرسالة الدّعوية الإصلاحية الإكرامية لأصحاب الأهواء والمطامع، ولا لأصحاب الطموح الدنيوي وما يدور في فلك هذا الطموح من جاه وسلطان وتكاثر في الأموال والأتباع، فهؤلاء أقل شأنا من أن ينهضوا بهذا الشرف، ولكنه صلى الله عليه وسلم ورّث هذه الرسالة للعلماء الربانيين الذين يستضيئون من مشكاة النبوة، ويغترفون من معين الاغتناء بالخالق عن الخلق، ومعين الارتباط بالحي القيوم الدائم الكرم والرضا، والاغتناء به عن الارتباط بالفاني الذي لا يُسمن ولا يُغني من جوع يوم تُبلى السرائر. قال صلى الله عليه وسلم : >إنّ العُلَماءَ ورَثَةُ الأنبِياءِ، إن الأنْبِيَاءَ لمْ يورِّثُوا ديناراً ولا درْهَما، وإنما ورَّثُوا العِلْم، فمَنْ أخذَ بِهِ أخَذَ بحَظٍّ وافر<(رواه أبو داود والترمذي).
فهل قام علماء الأمة بهذا الدور الخطير كما يجب وينبغي على امتداد التاريخ الإسلامي؟
للحقيقة والتاريخ : إنه لم يخْلُ عصْرٌ من علماء ربانيين أقاموا الحق وردعوا الباطل، وقمعوا الضلال، كما لم يخل عصْرٌ من مؤسسات علمية كانت نعم الملجأ والملاذ لطلاب الحق والهدى. إلاّ أن تهافت بعض العلماء الدنيويين على أعتاب المال والجاه فتح ثغرات في الصفوف الربانية وأوْهَنَها وحرَّف مسيرتها، فأصبح العلم لا يُتَعلَّم لله، ولكن يُتعلم الدين للتكسب والارتزاق، فطعن هذا الصنف نفسه وكرامته قبل أن يطعن أقرانه ومؤسساته العلمية وأمته، حيث تسرب من هذا الصنف المندسون الذين جعلوا همهم القضاء على مراكز العلم الرباني ورُمُوزِه ودُعاته، فحصلت الكارثة التي نتجرع مرارتها الآن، من تسلط كل من هَبّ ودبّ على حِمَى العلم الشّرعي، وحِمَى الإفتاء، وحِمى الاحتكار للمنهج الديني، والفهم الديني، والتوجيه الديني. بل أكثر من ذلك انتزاعُ الثقة من العلماء الربانيين بخطط جهنمية، وفقدانُ الشعب ثقته في علمائه ودعاته لاختلاط الحابل بالنابل. فهل نعجب بعد هذا إذا رأينا (علماء) يجرّدون حملات إعلامية غضبا لحرمانهم من منصب زهيد لا يساوي المداد الذي كُتب به؟؟ وهل نعجب من تجنيد طاقات هائلة لتكميم الأفواه التي لم تطقرؤية الكرامة العلمية تذبح؟؟ وهل نعجب إذا رأينا من يجرد الحملات تلو الحملات لتزهيد الناس في العمل بالدين باسم العلم والدين، أو يقلِّلُ من شأن ارتكاب المحرمات الكبرى التي تخرب العقل والخلق والعرض والدين؟؟ وهل نعجب إذا رأينا الانصراف الكلي عن تكريم العلماء والمخلصين لرسالة الأمة؟؟ في الوقت الذي تشتت الأموال عن اليمائن والشمائل لتشجيع من ينخر كيان الأمة بالفسق والإلحاد والتخدير؟؟
إن الأمر جد ويحتاج من العلماء الربانيين إلى مراجعة لإثبات الذات، ذات العلم الشرعي وحمايته، ذات الأمة وحمايتها من الاختراق، ذات المؤسسات العلمية والمحافظة على استقلاليتها عن كل التبعيات والتعصبات إلا للحق الذي ائتمن الله تعالى عليه العلماء، وهذا أمر يحتاج إلى جُهد وتضحية واستعداد للصبر على البلاء الإعلامي والتشهيري وغير ذلك، فتلك سنة الله تعالى ولن تجد لسنة الله تبديلا، فإرث النبوة والرسالة أعظم تركة صلى الله عليه وسلم