(2) الإسلام والنظريات
الاقتصادية الوضعية
كل النظريات الاقتصادية الوضعية بدون استثناء، ترتكز في نهاية التحليل على القوّة بمختلف أشكالها وتلاوينها، إذ أنها تسعى بصفة أو بأخرى إلى اعتماد القوّة كأساس للاستمرار، وهي قوّة يُمكن أن تتّخذ عدّة أشكال : مادية معنوية، قانونية، عسكرية ومعرفية.
وكذلك الاسلام.. إنّه يرتكز على القوّة لكنها قوّة من صنف مغاير ومن طينة مختلفة تماماً سواء فيما يخص مكوّناتها أو الهدف المتوخى منها.
فَمِن حيث المكوّنات، القوّة في نظر الاسلام ليست في المادة فحسب، وإنّما هي قوّة في الإيمان وقوّة في المادّة. فإذا كانت القوّة الاقتصادية في منظور النظريات الوضعية هي هدف في ذاته، فإنّها في المنظور الاسلامي مجرد وسيلة لتحقيق غاية الانسان على الأرض.
ومن هنا يتّضح الفرق الجلي بين غاية النشاط الاقتصادي عند الوضعيين وغايته انطلاقاً من المنظور الاسلامي. فإذا كانت غاية النشاط الاقتصادي بالنسبة للمذاهب الوضعية هي تحقيق المتعة والاشباع واللذة والاستجابة لرغبات الانسان، فإن الهدف منها في المنظور الاسلامي هو تمكين الانسان من القيام بالمهمة التي كلّفه بها الله سبحانه وتعالى على الأرض، وهي البناء والتعمير والصلاح، وليس التخريب والفساد والهدم. يقول عزّ وجلّ في سو رة البقرة : {كلُوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين}.
وفي هذا الإطار لابد من ملاحظة قضية منهجية في غاية الأهمية، وهي أن النظريات الوضعية تهتم بالعملية الاقتصادية اهتماماً قبلياً، أما المنظومة الاقتصادية الاسلامية فتهتم بها اهتماماً بعدياً. وهنا يكمن بالضبط التباين الواضح بين الأهداف المتوخاة بالنسبة للمنظومتين، وفَهْمُ هذا التباين انطلاقاً من نهج الاهتمام بالعملية الاقتصادية يؤدي بنا حتماً إلى ملامسة الواقعية الاسلامية، عبر اعتبار أن كل ما تتوخاه النظريات الاقتصادية الوضعية، وما تسعى إليه هو متاع مهما كثر يظل قليلاً وزائلاً بالمقارنة بمفهوم النعيم في المنظور الاسلامي. يقول عز وجل في سو رة النساء : {قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى}، وهذا كاف وزيادة لبيان أن المنظومة الاقتصادية الاسلامية منظومة عقيدية، بينما المنظومات الاقتصادية الوضعية هي منظومات مذهبية وايديولوجية، وهذا الاختلاف يبيّن بجلاء قوّة المنظومة الاسلامية وشموليتها. وتستمد هذه القوّة من كونها تغترفها من عقيدة لا مجال فيها للحسابات المنفعية المادية الضيقة الأفق، وهي ليست أي عقيدة وإنّما عقيدة التوحيد وهذا دليل آخر على قوّة وشمولية المنظومة الاقتصادية الاسلامية.
ولقد تأكد حالياً بما فيه الكفاية وزيادة، أن هذه العقيدة تفسّر الكون والحياة والوجود والماهية تفسيراً واقعياً وقد أيّدت البحوث العلمية والأعمال التجريبية والاجتهادات العقلية هذا التفسير، كما بيّن التاريخ وبالملموس أن مختلف الايديولوجيات الوضعية حملت في طيّاتها الدفاع عن مصالح ذاتية أو فئوية طالما اصطدمت مع المنطق العلمي أو العدالة الاجتماعية بل حتى مع مستلزمات احترام الصفة الانسانية. ولعلّ أبرز مثال في هذا المجال التعامل مع الانسان، إذ اعتبرته المذاهب الوضعية، مجرد كائن موجود لإشباع لذّاته ومتعته الحسية وحاجياته المادية والغريزية، واعتباراً للتطور المعرفي ا ضطرت هذه المذاهب لتكييف نظرتها للإنسان فاعتبرته إنساناً اقتصادياً شغله الشاغل هو اشباع النزوات والرغبات والحاجيات دون اعتبار للقيم الا نسانية، لذا كان من الطبيعي والمنتظر أن تصل المجتمعات الانسانية إلى ما هي عليه حالياً من فساد وانحدار وتردي.
- إدريس ولد القابلة