قضايا فقهية معاصرة : مشكلة الفـقـر : الوقاية والعلاج في المنظور الإسلامي (6):  الكوارث الطبيعية والآفات الطارئة : (حرائق وزلازل وجفاف وفضيانات وحروب وإعاقات جسدية أو عقلية..)


وهي أسباب تقل وتكثر من بلد لبلد، ومن زمن لزمن، ولكنها عندما تقع تكون خطيرة ومدمرة في بعض الأحيان، تخلف وراءها في صفوف المصابين بها خسائر فادحة، وفقرا مدقعا، ومجاعة عامة وعددا كبيرا من المشردين والمعطوبين. والإسلام في تعامله مع هذه الظواهر الطبيعية و الآفات السماوية والتصرفات البشرية الطائشة، عمل على تجنيد كل الطاقات الممكنة لمقاومتها والحد من ويلاتها، لذلك يوصي :

أولا : بالحذر من هذه الكوارث، وتجنب أسبابها القريبة والبعيدة ما أمكن، واتخاذ كامل الاحتياط منها، والتحلي باليقظة والاستعداد والحزم، وعدم التساهل فيها، أو التهاون معها، للمنع من وقوعها، والوقاية من حدوثها.

وفي هذا النطاق نورد:

1- ما جاء به الإسلام من النهي عن ركوب البحر وقت ارتجاجه، في حديث : >من ركب البحر حين يرتج فلا ذمة له< والتحذير من ترك النار في المنازل  والحث على إطفاء السرج عند النوم، في حديث : >إن النار عدو لكم، فإذا نمتم فأطفئوها<، وحديث : لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون<، وحديث : >إذا نمتم فأطفئوا سرجكم<، وغيرها من الأحاديث.

وهي أحاديث تؤسس لقاعدة الوقاية من الحرائق والكوارث والتحفظ من أسبابها المختلفة وتجنبها ما أمكن، وترصّد ما يمكن التنبؤ به قبل وقوعه، كالزلازل والأعاصير، والفيضانات، وهيجان البحر، وتعريف الناس بذلك وتنبيههم إلى أوقاته ومخاطره قبل حدوثه.

2- وفي هذا النطاق أيضا يدخل ما جاء به الإسلام من النهي عن الحروب، والأمر بتجنب أسبابها القريبة والبعيدة، فحرم الظلم والتنابز بالألقاب، والهمز واللمز، والغيبة والنميمة، واحتقار المسلم أخاه المسلم والتجسس عليه، وظن السوء به وشتمه وسبه، وغير ذلك مما يعرف بالحرب الباردة التي تتحول بين عشية وضحاها إلى حرب ساخنة محرقة تأكل الأخضر واليابس نتيجة لتلك التجاوزات والاستفزازات التي تنبه الإسلام إلى خطورتها، وتتبّعها واحدة واحدة بالنهي عنها والتحذير منها في عدة آيات وأحاديث يلخص معظمها حديث : >سباب المسلم فسوق وقتاله كفر<.

كما حث على إصلاح ذات البين واعتبره أفضل من الصلاة والصيام والصدقة، وأباح الكذب في سبيل تحقيق هذا الهدف النبيل، كما جاء في حديث : >ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا بلى، قال : إصلاح ذات البين،وفساد ذات البين الحالقة<، وحديث : >ليس بالكاذب من أصلح بين الناس فقال خيرا أو نمى خيراً<-رواه أبو داود-. كل هذه الأوامر والنواهي والتراخيص تجنبا لوقوع حرب لا يجني من ورائها الكثير إلا البؤس والشقاء والفقر والجوع، فكانت الوقاية منها ومن أسبابها وقايةللناس من الفقر قبل وقوعه، وهو أحد الأهداف التي يحرص الإسلام على تحقيقها، وبلوغها بأقصر طريق وأحسن وسيلة وهي السلم للجميع والرفاهية للجميع.

3- كما يدخل في هذا النطاق أيضا ما جاءت به الشريعة الإسلامية من الأمر بالمحافظة على الصحة البدنية والعقلية وتجنب كل ما من شأنه أن يعرض الإنسان عاجلا أو آجلاً لآفة في جسمه أو عقله تمنعه من العمل، وتعوقه عن كسب عيشه، بكد يده وعرق جبينه، وتُعرّضه للبطالة والفقر، والعيش على عطاء الناس وإحسانهم الذي قد يوجد وقد لا يوجد، وفي كل الحالات ينقص من قيمة المرء ويمس بكرامته وهو شىء لا يرضاه الإسلام، ولا يحبذه، ولتحقيق ذلك حرم الخمر والزنا، وحرم كل ما يضر بالصحة، في حديث : >لا ضرر ولا ضرار<، وأمر بالتداوي من الأمراض، وعدم الاستسلام لها حتى تفعل فعلها في المريض، فتورثه عجزاً أو عاهة، فقال في ذلك : >تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له دواء، غير داء واحد الهرم<-رواه أبو داود-. وهو حث واضح لكل مريض على متابعة العلاج، وعدم اليأس من الشفاء، فلكل داء دواء، والهدف من ذلك المحافظة على صحة الجميع لما تمثله من قوة عاملة، وطاقة اقتصادية وسياسية وعسكرية، ولهذا قال عليه السلام : >المومن القوي خير وأحب إلى الله من المومن الضعيف، وفي كل خير<، وكان من دعائه  “آللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل..” لأن العجز يزيد الفقر، والفاقة والحاجة.

4- وفي هذا الإطار العام أيضا إطار تجنب المخاطر، يدخل ما جاء به الإسلام من النهي عن المخاطرة بالمال والتغرير به، وتعريضه للخسارة أو التلف والضياع.

وهكذا نهى الرسول  عن بيع الثمار قبل طيبها كما رواه البخاري وغيره. ونهى عن شراء السمك في الماء، كما رواه أحمد، وعن شراء العبد وهو آبق، وعن ضربة الغائص فيما رواه أحدم والترمذي، وعن بيع السنين، فيما رواه مسلم، وعن بيع الغرر بصفة عامة فيما رواه الجماعة إلا البخاري.

والسر في ذلك كله أن هذه المعاملات كلها مجهولة العواقب، غير مضمونة النتائج، يمكن تلف البضائع المشتراة أو فسادها قبل وصولها إلى يد المشتري فيضيع عليه ماله، ويتعرض للخسارة والإفلاس، والفقر وتراكم الديون عليه في بعض الأحيان، وعجزه عن الأداء، واضطراره للسؤال والاستجداء كما وقع ذلك في عهده  لبعض الصحابة.

روى مسلم وغيره أن رجلا أصيب على عهد رسول الله  في ثمار ابتاعها، فكثر دينه، فقال  : >تصدقوا عليه< فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال  لغرمائه : >خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذاك<.

فالمخاطرة بالمال هي التي أوقعت هذا الرجل فيما وقع فيه من أزمة مالية، وخروجه منها فقيراً مدينا، يطلب الصدقة، ولو احتاط لماله، وعمل بشريعة نبيه، لما وقع في تلك الأزمة.

ثانيا : عند انفلات الأمر وطغيان تلك الكوارث ووقوعها رغم الوقاية منها، فإن الإسلام يوصي في هذه الحالة بالتعبئة الشاملة لمقاومتها، والحد من خسائرها والتعاون على التخفيف من آثارها والتقليل من نتائجها كما مر في حديث مسلم السابق فيمن أجيحت ثماره، وكما جاء في حديث : >المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه<.

ومن هنا قرر الفقه الإسلامي والفقه المالكي بصفة خاصة وجوب حماية مال المسلم، وحفظه من الضياع، واستنقاذه من الهلاك، ولو كان في صلاة فإنه يقطعها لحماية ماله أو مال غيره، على تفصيل مبسوط في كتب الفروع.

ثالثا : يُحمِّلُ الإسلام المتسببين في تلك الكوارث والمقصرين في درئها والممتنعين من عمليات الانقاذ فيها، كامل المسؤولية المالية، وإلزامهم بالتعويض عن الخسائر التي تسببوا فيها. والأضرار المالية الناتجة عن إهمالهم ومواقفهم منها وتقصيرهم في درئها انطلاقا من :

< قوله تعالى : {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}.

< قاعدة  “العمدوالخطأ في أموال الناس سواء”.

< قاعدة “المتسبب كالمباشر”.

< قاعدة “الترك كالفعل”.

وفي هذا النطاق يدخل ما رواه الدارقطني عن حكيم بن حرام أنه كان إذا أعطى ماله قراضا لأحد مقارضة شرط عليه أن لا يحمله في بحر ولا ينزل به في مجرى سيل ولا يجعله في كبد رطبة، فإن فعل شيئا من ذلك ضمن ما ضاع من ماله، لأنه خاطر بمال غيره وعرضه للضياع فيلزمه ضمانه.

رابعا : وعندما تكون تلك الكوارث لايد فيها للإنسان من قريب ولا بعيد، فإن الإسلام يقرر وضع الجواتم عن المصابين بها، تخفيفا عنهم ورحمة بهم وحرصا على أموالهم، وحماية لهم من الإفلاس والفقر.

روى مسلم وأبو داود عن جابر ] عن النبي  قال : >إذا ابتعت من أخيك ثمرا فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟<. وفي حديث آخر أنه  نهى عن بيع السنين وأمر بوضع الجوائح. وذلك قمة العدالة بين المتعاقدين، فإن أرباب الثمار والأراضي المجاحة لم يعطوا المشترين والمكترين شيئا بخلاف هؤلاء فإنهم دفعوا أموالهم للحصول على مقابل لم يحصلوا عليه، فمن الظلم إلزامهم بدفع أثمان ما لم يقبضوه، وكراء ما لم يستغلوه، ولهذا قال  : >بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟<.

خامسا وأخيرا فإن الإسلام رصد موردا من موارد الزكاة لإنقاذ الغارمين ومساعدتهم على أداء ديونهم، والتخلص من أزماتهم، وتعويض المصابين منهم بالجائحة كما جاء في قوله تعالى : {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن سبيل فريضة من الله}.

إن الإسلام :

> بتحذيره من الكوارث وتهيئة أسبابها ودعوة الجميع لمقاومتها عند وقوعها.

> وبتضمينه المسؤلين المباشرين والمتسببن في تلك الكوارث والمقصرين والمهملين في مقاومتها.

> وبوضعه الجوائح عن المصابين بها وإعفائهم من آثارها.

> وبتحمله ديون الغارمين العاجزين عن أدائها.

يهدف من وراء ذلك كله إلى :

< تحقيق ضمانات شرعية وقانونية لحماية أموال المسلمين من التلف والضياع.

< حماية أصحابها من الفقر والإفلاس.

< إغنائهم عن الالتجاء إلى التأمين ضد المخاطر والكوارث والجفاف الذي يمنعه الإسلام، ويحرمه تحريما قاطعا لأنه نوع من القمار، وأكل أموال الناس بالباطل.

< إيجاد مجتمع مطمئن آمن سالم من الآفات شعاره : السلام والعافية والرفاهية للجميع.

< د. محمد التاويل

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>