لقد كانت دعوة النبي حركة حضارية عليا لتحرير الإنسان من عبادة الطاغوت إلى عبادة الله، ومن اعتناق الوهم إ لى اعتناق الحقيقة، ومن الجور والظلم إلى العدل والقسط، ومن الجهل إلى العلم، ومن الظلم إلى النور.
ما من حركة حضارية في التاريخ صنعت ما صنع الفتح الإسلامي.
وليست الروعة فيه كامنة في عبقرية القتال وحدها، التي انتصر فيها رجال محدودو العدد والعدة على أضعاف أضعافهم في العدد والعدة وفنون القتال والإمكانات المادية من الفرس والروم، مما لا تفسير له -بعد عون الله سبحانه وتعالى ومدده- إلا أثر العقيدة الصحيحة في نفوس معتنقيها، وإلا التربية على حقائق العقيدة الصحيحة، التي مكنت هؤلاء الرجال المحدودي العدد والعدة من الوصول إلى المحيط غرباً والهند شرقاً في أقل من نصف قرن، وهي سرعة لا مثيل لها في التاريخ.
ليست الروعة كامنة في عبقرية القتال وحدها، وإنها -بذاتها- لأمر هائل في ميزان التاريخ، ولكن الروعة الكبرى هي في فتح القلوب للإسلام، ودخول الملايين في الدين الحق، بغير إكراه!
لم يكن القتال قط لإكراه الناس على الدخول في الإسلام : {لا إكراه في الدين قد تبيّن الرّشد من الغي}(البقرة : 256). إنما كان القتال لإزالة الجاهلية، ممثلة في عقائد جاهلية تقوم عليها نظم جاهلية تحميها جيوش جاهلية، فإذا أزيلت هذه فالناس أحرار بعد ذلك يختارون لأنفسهم ما يشاءون { قد تبيّن الرّشد من الغي فمن يكفر بالطّاغوت ويؤْمن بالله فقد استمْسك بالعُروة الوثْقَى لا انفصام لها والله سميع عليم}(البقرة : 252).
وأما “الآخر” الذي يريد أن يحتفظ بدينه، وهو على غي واضح، فهو آمن على نفسه ودينه وكيانه كله، ما لم يتعرض للمؤمنين بالأذى والقتال : {لا ينْهاكم الله عن الذين لم يُقاتِلوكم في الدّين ولم يُخْرجوكم من ديَارِكم أن تبرُّوهم وتُقْسِطوا إليهم إن الله يُحِبُّ المُقْسِطين} (الممتحنة : 8).
وهذه الملايين التي دخلت في الإسلام بغير إكراه، إنما دخلت فيه حين رأته ممثلا في بشر يعتنقونه ويمارسونه بالفعل، بشر تربّوا على حقيقة الإسلام، فترجموه إلى واقع مشهود يُعجب الناظرين إليه، فتهفو له قلوبهم فيدخلون فيه، ولو لم يكونوا على هذه الصورة الوضيئة ما دخل الناس في الدين الجديد بهذه الكثرة في ذلك الزمن القصير، ولو غُلبوا في ميدان القتال، فالسيف قد يفتح الأرض، ولكنه لا يفتح القلوب! وإذا كان الله يقول لرسوله : {ولو كُنت فَظّا غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا من حَوْلك}(آل عمران : 159)، وهو رسول الله، فكيف بالبشر الفاتحين إذا لم يكونوا على خلق قويم؟!
إن تحول شعوب بأكملها إلى الإسلام في تلك اللمحة الخاطفة من الزمان لهو أثر من آثار تلك التربية الفذة التي ربّى عليها رسول الله تلك القاعدة الصلبة، التي أولاها رعايته وعنايته، لتكون ستاراً لقدر الله يفعل بها الله ما يشاء سبحانه : {وهو الذي أرْسَل رسُوله بالهُدى ودين الحق ليُظْهره على الدين كله}(الصف : 9).
ولم تكن روعة الفتح محصورة في دخول تلك الأمم في الإسلام بهذه السرعة الخاطفة، ولكن كانت كذلك في العدل المثالي الذي تعامل به المسلمون -الذين رباهم رسول الله بالإسلام- مع البلاد المفتوحة، حتى مع من بقى على دينه منهم، وقصة عمر ] مع والد الشاب القبطي الذي ضربه ابن عمرو بن العاص بالعصا شهيرة في التاريخ، وكلمته التي قالها لعمرو : >ياعمرو! متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً< شهيرة كذلك، وفذة في التاريخ!
ولم تكن هذه وتلك هي حدود تلك الروعة الهائلة، فقد كان دخول أمم بأكملها في اللسان العربي -دون إ كراه- عجيبة لا مثيل لها في التاريخ، فقد نسيت تلك الشعوب لسانها، حتى من بقي منهم على دينه، وصارت لغتها هي العربية، بها تتخاطب وبها تفكر وبها تؤدي عبادتها!
تربية القاعدة الصلبة ضمان لاستمرار المنهج
وأخيراً وليس آخراً فقد كانت العناية الفائقة من رسول الله بتربية القاعدة الصلبة هي الضمان -بعد الله سبحانه وتعالى- لاستمرارية المنهج، بعد أن يمضي مؤسِّسُه إلى الرفيق الأعلى، والخلافة الراشدة -بكل ما حوت من المثل الرفيعة من مجالات الحياة- هي مصداق هذه الحقيقة، فقد كانت هي الامتداد الواقعي لمنهج الرسول ، بعد انقطاع الوحي، وغياب القائد العظيم بشخصه عن العيون.
وصحيح أن هذه الفترة لم تدم طويلاً، وما كان مقدراً لها أن تدوم، ولكن الهبوط عنها لم يكن هبوطاً عن الإسلام ولا نهاية للإسلام، كما يرجف المستشرقون وأعداء هذا الدين عامة، إنما كانت هذه الفترة تحليقاً في آفاق سامقة العلو، يعتمد كثير من أعمالها على التطوع النبيل بما هو فوق الإلزام الملزم، المفروض من عند الله ورسوله، فإذا هبط الناس بعد ذلك إلى أرض الالتزام أو قريباً منها فما هبطوا في الحقيقة، إنما تراخت أجنحتهم عن التحليق فحطوا على الأرض الصلبة يسيرون على الأقدام! وحسبهم -بعد أن هبطوا من التحليق في تلك الذرى العالية- ما قاموا به من نشر التوحيد في الأرض، وما أمدوا به البشرية من قيم حضارية عالية، ظلت أوروبا تقبس منها حتى القرن السابع عشر الميلادي، أي بعد الذروة بأكثر من عشرة قرون!
ولم تكن تلك الفترة مع ذلك مجرد برق لامع أضاء هنيهة ثم اختفى، فضوؤه اللامع ما زال ينير الطريق حتى هذه اللحظة، وإلى ما شاء الله بعد! إنها ما تزال -بمثاليتها الواقعية- مدداً للأجيال، يتملاها كل جيل، فيحاول أن يرتفع إليها. فإن لم يصل بالفعل فحسبه الاتجاه إلى الصعود، فهو دائماً خير من التقاعس الذي يؤدي حتماً إلى الهبوط بحكم ثقلة الأرض، وجذبها لمن يركن إليها. وكل حركات الإصلاح والبعث في تاريخ الإسلام -وما أكثرها، والحاضرة واحدة منها- إن هي إلا أثر من آثار تلك الفترة اللامعة التي ما يزال ضوؤها ينير الطريق. ومن أجل ذلك بالذات يسعى المستشرقون وأعداء الإسلام عامة إلى محاولة تشويه تلك الفترة ليطمسوا ذلك النور اللامع، ويمنعوا إشعاعه من الوصول إلى الأجيال التي تستضيء به فتنهض إلى الصعود من جديد، وهيهات لجهدهم الخبيث أن يفلح، إنهم يعاندون قدر الله : {يُرِيدُون ليُطْفِئوا نور الله بأفْواهِهم والله مُتِمّ نوره ولوْ كرِه الكافِرُون}ـالصف : 8).
< ذ محمد قطب