دروس من سيرة المصطفى


يستطيع كل قارئ للنصوص والتوضيحات التي أوردناها في العدد 161 عن نسب الرسول  أن يستنبط بنفسه فوائد كثيرة، وهذه بعض الفوائد التي يجدر بالقارئ أن يتنبه إلَيْهَا :

3) شرف الأمومة لا يقل عن شرف الأبوة

اعتاد الناس أن يحتفظوا بالأنساب من جهة الأبوة لأنه هو المتيسِّر، ولكن اللَّه تعالى -وهو الأعلم بالأنساب التَّقِيَّةِ الصالحة لا من جهة الأم ولا من جهة الأب- يختار لأنبيائه ورسله الأمهات الصالحات عرفناهن تاريخيا أم لم نعرفْهُنَّ، فهذه سارة ومنزلتها عند اللَّه تعالى تُعرف في وقوفها أمام الجَبَّار، حيث صَرَفَ عنها كيده؛ كما تُعرف بتشريفها بالنسل على كِبَرها حيث بشرتها الملائكة بذلك جهاراً بدون تخفٍّ أو تلميح أو مجرد إلهام وإيحاء، فكان من ذريتها سلسلة من الأنبياء والرسل والصالحين والصالحات، وهذه هاجر ورضاها بقضاء اللَّه وقدره في أن تبقى بوادٍ غير ذي زرع ولا ضرع بدون أنيس ولا أليف إِلاَّ اللَّه تعالى وولدها وصبيّها، وهذه أم موسى عليه وعليها السلام لصلاحها تكاد تشبه الأنبياء، لأن اللَّه تعالى قال: {وَأَوْحَيْنَا إلَى أُمِّ مُوسَى}(القصص : 6)(1)، وصلاحها ليس غريبا ولا مستغرباً فهي نسبيا وتاريخياً: لُوحا بِنْتُ هاند بن لاوي بن يعقوب(2)، ومريم أم عيسى عليه وعليها السلام هي بنت امرأَة عمران الذي شرفها اللَّه تعالى بالذكر في القرآن وتقبَّل منها هِبَتَهَا وصَدقتها ونَذْرَهَا، فأنْبَتَ ابنتَها نباتا حسنا، فكانت بهذا النَّبَاتِ الحَسَنِ امرأة صالحة ليكون من نسلها بدون أب نبياً ورسولا هو عيسى بن مريم التي شهد الأعداء بصلاح أسرتها أبا عن جد عن أم، فقالوا لها: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} -مريم : 27-.

فهل نعجب أن تكون أمُّ محمد  -آمنة بنت وهب- تشترك معأبيه -عبد اللَّه- في النسب الطاهر المختار من خير القرون والقبائل والأنساب؟ >إن أبوي رسول اللَّه  غصنان زكيَّان من نفس دوحة النسب الزكي، يلتقيان في الجد السادس من جهة الاب (عبد اللَّه بن عبد المطلب بن هَاشِم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة) والرابع من جهة الام (آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة) وما أحسن أن يزكو الأصل من جهتيه<(3) ليخرج من ذلك الأصل خَيْرُ الأنام.

وقد تقدم حديث وائلة بن الأسقع الذي رواه مسلم، وفيه: (إن اللَّه اصْطَفَى كِنَانَةَ من ولد إسْمَاعِيل، واصْطَفَى قُرَيْشا من كنانة، واصْطَفَى قُرَيْشاً من بني هَاشِم، واصطفاني من بني هَاشِم) ما يفيد فوائد أخرى زيادة على فَضْل النسب الشريف، ومن جملتها:

< أن اللَّه شَرَّف العَرَبَ عامة باختيار النبي منهم للرسالة الخاتمة، واختيار لغتهم لتكون لغةً للقرآن، ومن هنا كانت محبةُ العرب هي عبارة عن محبة القوم الذين بُعث منهم الرسول لا من حيث الأفراد، ولكن من حيث الحقيقة المجردة فقط، فمَحَبَّتُهم وشرفهم ليس لذاتهم، ولكن لانتساب الرسول  إليهم. كما أن مَحَبَّة اللغة العربية هي من محبة القرآن، وشرفها من تشريف القرآن الكريم لها.

<  إن اللَّه تعالى شرف قُرَيْشا على الأخص -بقطع النظر عن المعاندين الساقطين من الاعتبار- لأن أوَّلَ المؤمنين منهم، وأول المبشرين منهم، وأوَّل الشهداء منهم، ولأن الخلفاء الراشدين منهم، واللَّه تعالى قال: {والسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ والأَنْصَارِ وَالذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه} – التوبة:101-، فاللَّه عز وجل ذَكَرهم هم الأُوَل. فلا ينبغي أن ننظر إلى أبي لهب، وأبي جهل، والوليد بن المغيرة وغيرهم من الأعداء، وننسى أبا بكر، وخديجة، وسعد بن أبي وقاص، وسمية خياط وغيرهم.

<  إن اللَّه عز وجل كما اصْطَفَى محمداً  للرسالة، فإنه سبحانه وتعالى اجْتَبَى الصحابة كلهم لحمل الرسالة، وفقهها، والدّعوة إلَيْهَا، قال عبد اللَّه بن مسعود ]: >إِنَّ اللَّهَ نَظَر فِي قُلُوبِ العِبَادِ، فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ  خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ، فَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَر فِي قُلُوبِ العِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ  فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ. يُقَاتِلُونَ عَنْ دِينِهِ. فَمَا رَأَى المُسْلِمُونَ حَسَناً فَهُوَ ِعْنَد اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَأَوْا سَيِّئاً فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ سَيِّئ<(4) فمن هذا الحديث يعرف المسلم سِرَّ قوله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالاَتِهِ} -الأنعام: 124-، فقلبٌ من نوع مُعَيَّن هو الذي يَسْتَأْهِل أن يَتَلَقَّى الوحي: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِين} -الشعراء: 193، 194- وقلوب من نوع معين هي التي تستأهل أن تتقبل الرسالة وتحملها: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُومِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} -الفتح : 26-(5).

——————-

1-  أجمع الكل على أنها لم تكن نبية، وإنما إرسال الملك لها على نحو تكليم الملك للأقرع والزعمى والأبرص في الحديث المشهور الذي خرجه البخاري ومسلم وغير ذلك مما رُوي من تكليم الملائكة للناس من غير نبوة، وقد سلَّمت على عمران بن حصب فلم يكن بذلك نبيا. الجامع لأحكام القرآن 13/250.

2- المرجع السابق.

3- إن تخيّر الأفْضَلِ للأفْضَلِ من أحْسَنِ ما يُفْعَل (أَفْضَلُ إمرأة) لـ(أَحَبِّ ولد) وبذلك التخيُّر أُمِرْنَا، {تخيَّرُوا لنطفكم}.

وأفضل ما يُتفاضل به بَعْدَ الدين سُمُوُّ الخُلق المؤدي إلى سموِّ المنزلة، وذلك هو حَاقُّ الشرف. أما من بطَّأ به عَمَلُه، فلن يسرع به نسبه، ولن يكون شريفا قط من طاب نسبُه وأصله، وخَبُث خُلُقُه وعمله.(جريدة المحجة، عدد:2 – 1994، ص:5. ركن خلاصة السيرة النبوية).

4- رواه الإمام أحمد في مسنده 1/379، انظر الأساس في السنة وفقهها، السيرة النبوية 1/140.

5- المرجع السابق.

> ذ. المفضل فلواتي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>