ملامح الهوية
تعريف “الهوية” : يراد بالهوية ـ كما يقول الدكتور الشاهد البوشيخي: “حقيقة الكيان وما يتمثل فيه وجوده، وتتجلى فيه خصوصيته الحضارية بكل أبعادها. وأهم مقومات الهوية الإسلامية واكبر أبعادها يمكن حصره في المقومات والأبعاد التالية:
1) البعد الإيماني: ويتمثل في مقوم الوحي، قرآنا وسنة.
2) البعد الثاني: ويتمثل في مقوم التراث: تراث المسلمين المستنبط من الوحي أو الخادم له فقها وأصولا للدين والفقه والحديث واللغة.
3) مقوم العربية، باعتبارها لسان الوحي ومفتاحه.
4) البعد الزماني : تاريخ الإسلام، باعتباره الوعاء التطبيقي لهذا الدين إحسانا وإساءة لأخذ العبرة.
5) البعد المكاني: مقوم الأرض: أرض الإسلام، أو ما يسمى اليوم بالعالم الإسلامي، باعتباره مسرح التاريخ والواقع معا لهذه الأمة”(1).
ومن المعلوم في أمر الأنظمة التربوية أن أول شرط لإنتاجيتها وخصوبتها يتمثل في تطابقها مع ذاتها وتعبيرها عن واقع المجتمع الذي تعمل فيه وعن مطامحه وتطلعاته على مستوى تأكيد ذاته وترسيخ بنائه الحضاري. فإلى أي حد تتمثل هذه الخصائص في الوثيقة الإطار؟
إن مفهوم الهوية في “الوثيقة الإطار” يعاني من اضطراب مريع، يتجلى في مظهرين: يتمثل أولهما في إجراء تفكيك تعسفي بين أنواع القيم المرصودة للمناهج التربوية(2) ويتمثل الثاني في جعل المنهاج التربوي يتسع لجملة من القيم المتناقضة.
أما المظهر الأول فيبرز من خلال فصل قيم المواطنة وقيم حقوق الإنسان عن قيم العقيدة الإسلامية السمحاء، وعن قيم الهوية ومبادئها الأخلاقية والثقافية، هل يصح هذا الفصل بين قيم الهوية ومبادئها الأخلاقية والثقافية وبين قيم العقيدة الإسلامية السمحاء” وواقعُ الأمة المغربية وتاريخها يؤكدان أن لا هوية لها خارج دائرة الإسلام؟ ولكن يبدو من قرائن توجهات الوثيقة الإطار، أن “مبادئ العقيدة السمحاء” لا تعدو أن تكون مجرد عنصر هامشي ضمن أنواع القيم. ولعل استعمال الوثيقة لهذه التسمية يخفي وراءه تصورا معينا لطبيعة الدين، هو الذي ينظر إليه باعتباره علاقة بين العبد وربه بالمعنى الضيق أو الكنسي لهذه العلاقة وإلا فإن التعبير الصحيح هو قيم الإسلام أو قيم الدين الإسلامي الحنيف الذي يتميز بكونه عقيدة وشريعة ومنهج حياة.
إن سمة التفكك والاضطراب وعدم الانسجام التي يشكو منها تصور الوثيقة الإطار للهوية تجد انعكاسها على مستوى المواصفات التي حددت للمتعلمين في نهاية الأسلاك التعليمية. وهكذا فإننا نجد مواصفات من قبيل “أن يكون المتعلم متشبعا بالقيم الدينية والخلقية والوطنية والإنسانية” (ص 13).
“أن يكون متفتحا على قيم ومكتسبات الحضارة المغربية بكل مكوناتها وواعيا بتنوع وتكامل روافدها”.
“أن يكون متفتحا على قيم ومكتسبات الحضارة الإنسانية المعاصرة”
“أن يكون متشبعا بقيم الحداثة والثقافة الديمقراطية” (ص 16).
إنه يحق لنا أن نسائل اللجنة عن المقصود بمكتسبات الحضارة الإنسانية المعاصرة، مما يغيب عن علمنا، أما ما بلغ إلى علمنا من ذلك، بل وعايشناه ونعايشه بكل مرارة، فهو خليق بأن يخلف فينا شعورا بالقرف والغثيان، نظرا لكونه لا يمت إلى الإنسانية بأدنى صلة، بل إنه يشكل عدوانا سافرا عليها وإتلافا لمقوماتها، وعلى رأسها الحرية والكرامة والأمن. إن الإعجاب بما يسمى قيما إنسانية في المدنية الغربية لا ينبثق ـ إلا في نفوس مهزوزة تشكو من إصابة بليغة بعقدة المازوشية، وهي عقدة يتلذذ المصابون بها بما يصبه عليهم الآخرون من ألوان العذاب.
كما يحق لنا أن نتساءل عن المدخل الذي تسلكه إلى شخصيات المتعلمين، صفات(3) مثل الاستقلالية والتوازن والتفتح، في ظل هذا الخلط بين اشتات من القيم، لا تشدها وحدة عضوية ولا يربطها خيط مذهبي ناظم، وأقصد هنا مذهبية الإسلام التي تتصدر الدستور، وتقتضي المواطنةُ الحقة ضرورة التحرك في نطاقها والاهتداء بمبادئها وقيمها وأحكامها. أما الانتظام الداخلي المبطن وغير المعلن بشكل واضح، في سياق المذهبية المسماة “كونية” فمتوفر بشكل ملحوظ عبر الأهداف والمواصفات والقيم والمقاييس التي تضمنتها “الوثيقة الإطار”.
إن معرفة المتعلم لذاته ولغته وتاريخ وطنه، وهذه كلها مقومات أساسية للهوية كما سبق أن عرفنا ذلك عند التعريف بها، لا يمكن أن تجد طريقها إلى التجسيد في الواقع في ظل منظومة تقف ببرمجة القيم الدينية والخلقية عند سلك التعليم الابتدائي، وتقصي مادة التربية الإسلامية من عشر شعب دراسية ضمن اثني عشرة شعبة هي قوام هيكلة أقطاب السلك التأهيلي. فهل ذات المتعلم إلا دينه في المقام الأعلى، ثم لغته التي تمثل المفتاح إلى فهمه، ثم تاريخه الذي على أساسه تصاغ ذاكرته ووجدانه؟
إن الحديث عن وظيفة الدين الإسلامي أو إسهامه في تنمية الكفايات المتوخاة للمتعلمين يحيلنا إلى وضع موقف الوثيقة من الكفايات موضع التساؤل.
تصـورات الــوثيقة
الإطـــار الكفايــات
تبنت الوثيقة الإطار تصورا للكفايات يقوم على أساس خمسة أنواع من الكفايات: 1) الكفايات الاستراتيجية، 2) والكفايات التواصلية، 3) والكفايات المنهجية، 4) والكفايات الثقافية، 5) والكفايات التكنولوجية.
ونص تقرير نتائج أشغال اللجنة البيسلكية متعددة التخصصات على أن من المبادئ التي تم استحضارها: “الانسجام والترابط بين القيم والكفايات والمقاييس الاجتماعية العامة والتي يعزز بعضها البعض في المسار التكويني للمتعلمين” (ص4) والتكامل بين الأسلاك التعليمية والحقول المعرفية المكونة للمواد والمجزوءات وانفتاح المواد بعضها على بعض” (ص4).
في بداية تحليل طبيعة هذا المدخل البيداغوجي الذي اعتمد من قبل الوثيقة الإطار، أقول بأنه يمكن أن يكون مدخلا إيجابيا ومنتجا، ولكن ذلك يظل مشروطا بتحقيق الانسجام الفعلي، ليس فقط بين القيم والكفايات والمقاييس الاجتماعية، ولكن -قبل ذلك- بين القيم ذاتها، وقد سجلنا غياب ذلك تماما.
ومن غريب المفارقات أن ما يسفر عنه التأمل الدقيق، أن التكامل الذي تتوخاه الوثيقة الإطار “بين الأسلاك التعليمية والحقول المعرفية”، إن هو في حقيقته إلا تدرج وتنام في اتجاه تحقيق هدف منشود، هو صياغة أفراد متشبعين بقيم الحداثة والثقافة الديمقراطية في نهاية السلك التأهيلي، ومن الواضح أن هذا الأسلوب الذي سلكته الوثيقة في هذا الصدد، يعكس مناقضة لما تم التنصيص عليه من ضرورة التدرج في تقديم المعارف والقيم عبر مسار ثلاثي يبدأ بالاستئناس فالاكتساب فالتعميق.
إن قدرا كبيرا من التشويش وعدم الدقة يطبع الارتباطات بين القيم والكفايات كما هي مرسومة في الخطاطة التفصيلية.
فإذا أخذنا على سبيل التمثيل لا الحصر، الارتباط بين قيم العقيدة الإسلامية السمحاء، والكفايات المنهجية والثقافية تأكدت لدينا آفة التسرع والاستعجال في بناء وإنتاج وثائق مصيرية في حياة الأمة، فضلا عن آفة بناء تلك الوثائق على أساس تصور بعيد عن واقع الأمة ومقوماتها الحضارية.
جاء في خانة تقاطع قيم العقيدة الإسلامية السمحاء مع الكفايات المنهجية ما يلي: “اكتساب منهجية للتحليل والنقد والتساؤل تساعد على التمكن من استيعاب قيم العقيدة الإسلامية السمحاء وتدبير الذات في علاقتها مع الآخر والمحيط” (ص26).
إن الوثيقة تفترض اكتساب الكفايات المنهجية المشار إليها من خارج الإسلام، قيم “العقيدة السمحاء” وذلك لعمري خطأ فادح يدل على جهل مقيم بما يختزنه الإسلام من قيم وإمكانيات على المستوى المنهجي. فمنهجية التحليل المتحدث عنها في تلك الخانة هي جزء من المهارات والمكاسب الفكرية التي يتيحها التعامل مع القرآن الكريم والسنة النبوية، فهما يدعوان إلى التفكير والتدبر في ملكوت الله عز وجل ومخلوقاته ونبذ الآبائية والفكر الخرافي، وإن ثناء القرآن على الذين يعقلون ويتفكرون لدليل على الإعلاء من قيمة التفكير وإن ما تضمنه القرآن الكريم من أسس التفكير السليم والبحث المنهجي وما تمخض عن تعامل المسلمين معها من عقليات علمية فذة، خير دليل على العمق المنهجي لرسالة القرآن الكريم.
وجاء في تقاطع “قيم العقيدة الإسلامية السمحاء” مع الكفايات الثقافية ما يلي: “التعرف على مختلف مكونات الثقافة الإسلامية،واتخاذ موقف إيجابي من الثقافات الإنسانية الأخرى بما يسمح بتعزيز قيم العقيدة الإسلامية السمحاء”.
إن بوسعنا أن نقول جازمين بأن صياغة الكفاية السابقة، قد جاءت معكوسة تماما، فقد كان المفروض أن يجعل من التعرف على الثقافات الإنسانية مدخلا لحسن تقديم الإسلام إليها.
وإذا كانت المواد والمجزوءات التعليمية هي عدة الكفايات ومعينها الذي منه تشتق عناصرها ومقوماتها، فإنه من الحيف بمكان ومن قبيل المعصية الكبرى أن تحذف مادة التربية الإسلامية من أغلب الشعب، وأن يعلى في مقابل ذلك مادة الفلسفة التي تبوأت مكانا مركزيا ضمن مجزوءات المكون الإجباري الأول في جميع الشعب. فهل هذا التلميذ أحوج إلى الفلسفة منه إلى قيم الإسلام؟ !
وإذا كنا لا نعترض على تدريس الفلسفة، نظرا لما تؤديه من وظيفة على مستوى تنمية القدرة على التحليل في شخصيات المتعلمين، وعلى المحاكمة العقلية الناضجة، وذلك مشروط طبعا بتحرير مناهجها من الشحن الإيديولوجي، ولتوفير مدخل بيداغوجي تدريسي يقوم على الحوار المثمر البناء، بعيدا عن كل تعسف يطمس عقول المتعلمين، فإن وظيفتها تتعزز في ذلك بمادة التربية الإسلامية، باعتبارها الميزان الضابط والشاهد على ما يقدم من عطاء فكري في الفلسفة. وإنه ليحق لنا أن نتساءل قائلين: هل نحن أمام كائن نضب فيه الجانب الوجداني واستحال إلى مجرد جهاز لا يصلح إلا للتعامل مع الأفكار والنظريات ؟ هذا إذا اعتبرنا جدلا أن مناهج التربية الإسلامية لا تعدو مستوى تحريك الوجدان وتغذيته بالقيم. أما وأن الإنسان هو الإنسان كما خلقه الله عز وجل بكيان متعدد الأبعاد قوامه روح وجسد وعقل ووجدان، فإن الحاجة إلى التربية الإسلامية تظل قائمة، وهذا حتى إذا فرضنا جدلا أن مناهج التربية الإسلامية مقصورة فيما تقدمه على القيم ذات الصلة بالوجدان.
أما وأن منهاج التربية الإسلامية يمثل الشمول في أرقى صوره، بحيث يستهدف كيان الإنسان في تعقيده وتكامله، ويلبي جميع حاجاته وأشواقه، لأنه من عند الله الذي يعلم من خلق، فهذه حجة تقتضي الحضور الدائم للتربية الإسلامية، روحا ساريا في جسم المنظومة التربوية، ومادة تقدم للناشئة ما لا يجوز الجهل به، مما لا يستقيم الوجود الإنساني ـ على مستوى الأفراد والجماعات إلا به، ومن ثم نستطيع القول بيقين، بأن التربية الإسلامية تشكل العمق الاستراتيجي في بناء المناهج التعليمية والمنظومة التربوية ككل.
إن الكفايات بجميع أنواعها كما هي مرسومة في الوثيقة الإطار، لا يمكن أن تجد مجالها الرحب وأرضها الخصبة التي تتيح لها إمكانيات التفاعل المنتج، إلا في ظل فلسفة تربوية تتميز بالصدق والشمول، مما ليس متحققا في غير إطار الإسلام.
مصداقا لقوله تعالى : {وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا} ومن خلال إبراز اللغة باعتبارها أحد أبرز مقومات الوجود الإنساني والحضاري بامتياز، حيث يقول الله سبحانه وتعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} وحيث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من تعلم لغة قوم أمن شرهم”.
وتبرز الكفايات المنهجيةكأرقى ما يكون من خلال إبراز القرآن الكريم لعلاقة التجاوب والتناسق بين كتاب الله المسطور وكتاب الله المنظور، ودعوة العقل الإنساني إلى اكتشاف سنن الله عز وجل في الأنفس والآفاق، في حركة فكرية تجد تألقها وأخصب عطائها بفضل الالتزام بالضوابط المنهجية التي يحددها الإسلام لحركة العقل حتى لا يزيغ في متاهات تفوت عليه الاستفادة من ثمراته.
وتبرز الكفايات الثقافية جلية واضحة مبرأة من التعقيد، بفضل نسق من القيم والمبادئ والمرتكزات الأخلاقية الكفيلة بأن تكون أساسا راسخا لثقافة راشدة تمثل المناخ الصالح لأنشطة الفرد والجماعة على السواء وتشكل أساس هذه الكفايات التكنولوجية، لأن الحس التكنولوجي وشحذ مهارات اكتشاف الواقع، لا يينع ويشتد ساعده إلا في ظل منظومة ثقافية منسجمة، ومعبرة عن الحقائق الكونية.
وتبرز الكفايات الاستراتيجية(4) في العلاقات التي يؤسسها الإسلام ويحدد مداخلها وقيمها في عمق وشمول، وهي كفايات تشمل جميع أبعاد الوجود الإنساني والكوني، وتتمثل في العلاقات التالية(5):
علاقة الإنسان بربه : علاقة عبودية
علاقة الإنسان بنفسه: علاقة تزكية
علاقة الإنسان بغيره : علاقة عدل وإحسان
علاقة الإنسان بالكون : علاقة تسخير
علاقة الإنسان بالحياة : علاقة ابتلاء
علاقة الإنسان بالآخرة : علاقة حساب وجزاء.
————-
1 ـ أعمال اليوم الدراسي عن “مشروع الميثاق الوطني للتربية والتكوين” (30 شوال 1420 هـ 6 نونبر 2000م) تنظيم جمعيه قدماء التعليم الأصيل بمشاركة جمعيات العلماء – إعداد وتقديم الدكتور الشاهد البوشيخي (ص 39-37).
2 ـ وهنا لا بد من التفريق بين التمييز أو الفصل المنهجي، وبين الفصل الفعلي والموضوعي كما هو ممارس في “الوثيقة الإطار”.
3 ـ ورد من “الأهداف والمرامي البعيدة من مراجعة مناهج التربية والتكوين: المساهمة في تكوين شخصية مستقلة ومتوازنة ومتفتحة للمتعلم المغربي تقوم على معرفة ذاته ولغته وتاريخ وطنه، وتطورات مجتمعه” (ص2)
4 ـ الكفايات الاستراتيجية كما وردت في الوثيقة الإطار هي: معرفة الذات والتعبير عنها ـ التموقع في الزمان والمكان ـ التموقع بالسنة للآخر بالنسبة للمؤسسات المجتمعية (الأسرة، المؤسسة التعليمية والمجتمع) وهذه العناصر وكلها داخلة ومستوعبة داخل مجال العلاقات المذكورة.
5 ـ وردت هذه العلاقات في كتابات د. ماجد عرسان الكيلان باستثناء العلاقة الثانية.
ذ. عبد المجيد بنمسعود