حوار مع الشيخ يوسف القرضاوي حول قضية التعليم بالمغرب


دخل التعليم بالمغرب الأقصى مرحلة حاسمة و خطيرة، يراد فيها استبدال القيم الإسلامية بقيم الحداثة الفجة، وقيم العولمة المستكبرة، بهدف طمس الهوية الدينية و الثقافية للأمة المغربية المسلمة.

إنه فجور سياسي منظم، تهب ريحه من البنك الدولي، كما هبت منه ريح “خطة الإدماج” المشؤومة، بقصد ضرب الدين واللغة والتاريخ و الهوية، والعصف بكيان الشعب المغربي المسلم…

و لمناقشة هذا الموضوع التقى الدكتور الحسن العلمي:مدير معهد الغرب الإسلامي للتكوين و البحث العلمي بقنيطرة المغرب، الشيخ العلامة يوسف القرضاوي، في مركز بحوث السنة و السيرة، بجامعة قطر، في زيارة لدولة قطر، فأجرى معه هذا الحوار :

حاوره د. الحسن العلمي

< شيخنا الدكتور يوسف القرضاوي، بارك الله فيكم، يعرف المغرب في هذه الأيام حملة علمانية على التعليم ، بعد الحملة على المرأة. تستهدف تجفيف منابع التعليم الديني، والتقليص من أثر المواد الإسلامية في مناهج التدريس.و هذا الأمر لم يجد من العناية من طرف القائمين على الدعوة والعمل الإسلامي ما لقيته قضية المرأة، إذ كانوا يظنون أن المسألة أعظم من أن يعبث بها المغرضون ، والمعركة كما تعلمون أقوى و أشرس، و ربما هي أخطر على الجيل المسلم من قضية المرأة . فما رأيكم ؟

> بسم الله الرحمن الرحيم، أنا أعتقد أن قضية التعليم أخطر من قضية المرأة، لأنها تتناول الجنسين معا: الرجل و المرأة، أو الفتى والفتاة، و هذه القضية هي التي تصوغ ناشئة الأمة، على ما يراد..يراد أن تكون موصولة بالله، أو موصولة بالطاغوت؟ تنظر إلى السماء، أم تنظر إلى الأرض؟ هل هي أمة دينية صاحبة رسالة سماوية، أو هي أمة مادية صاحبة رسالة أرضية، و لا علاقة لها لا بالسماء، و لا بالآخرة، و لا بالله، و لا بالرسل؟

هذه قضية في غاية الأهمية، و المعركة بدأت في أكثر من بلد، و خصوصا بعد عمليات التطبيع التي يراد أن تتم في عدد من البلدان العربية، يُراد تطبيع العلاقة مع اليهود، بحيث يقبل الناس الكيان الصهيوني و تطلعاته و أحلامه و أهدافه في ديارنا. و من هنا بدأت في بعض البلاد هذه القضية، و أقول: للأسف أنها انتصرت في بعضها، و غيرت في مناهج التربية الإسلامية، بل في مناهج اللغة العربية نفسها، و كانت تشمل كثيرا من الأشياء التي تتضمن مفاهيم إسلامية و توجهات دينية، فحذفوا هذا منها، و أكثرُ من ذلك أنهم وجهوا كثيرا من المدرسين الذين فيهم نزعة إسلامية إلى أعمال إدارية، حتى أثروا على المنهج و أثروا على الكتاب، و أثروا على المعلم، زيادة على الجو العام الذي يوحي بهذه النزعة الجديدة.

القضية، أنا أرى أنها في غاية الخطورة، و قديما قال أحد شعراء الهند الساخرين، و كان يعلق على ما فعله فرعون من أنه يذبح بني إسرائيل، و يستحيي نساءهم، قال : فرعون كان غبيا، و لو كان عنده ذكاء كما عند الاستعمار الحديث، لأنشأ كلية جديدة يعلم فيها أبناء إسرائيل ما يريد أن يلقنه لهم، و بذلك يقتلهم بغير الرصاصة، بغير السكين، و بغير الذبح. فهذه القضية في غاية الخطورة، لأنها تتعلق بهوية الأمة و انتمائها، هل هي أمة مسلمة أم أمة غير مسلمة؟ هل تنتمي إلى القرآن أم تنتمي إلى كتب أخرى؟ هل تسير وراء محمد عليه الصلاة و السلام إماما لها، أم تسير وراء أئمة آخرين و أنبياء آخرين؟ و إن لم يُسموا أنبياء. و لهذا أرى أن القضية خطرة جدا و مهمة جدا جدا، و أرى أن كل القوى الإسلامية يجب أن تتفق عليها، تترك أي خلاف جانبي، و أي معارك جزئية هنا وهناك، و يتفق الجميع على هذا، و هي جديرة بأن تقوم لها مسيرة مليونية، أو أكثر من مليونية في الدار البيضاء، كالمسيرات السابقة من أجل المرأة و غيرها.

فالرأي الذي أنبه عليه أنيهتم المثقفون، و المربون، و المفكرون، و العلماء، و الدعاة الإسلاميون، في المغرب العزيز علينا والحبيب إلينا، أن يتنبهوا إلى هذه القضية و إلى خطورتها، و أن يقفوا صفا واحدا في المعركة، لا مجال للخلاف، إنما يجب أن يتواص الجميع و يتلاحم الجميع، كما قال الله تعالى: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص}.

< نلاحظ أن الحركات الإسلامية أهملت جانب التعليم، و جانب التفقيه في الدين و الدعوة إلى إقامة مؤسسات في هذا، واتجهت نحو العمل العام الذي يحرك العواطف، و لا يصنع رجالا، فما رأيكم في هذا؟

> هذا لا شك أنه خطأ، فقضية التعليم قضية مهمة، و الرجال المصلحون و مجددو الحق لم يهملوا قضية التعليم، بل بعضهم أولاها أهمية كبيرة، ابتداء من الشيخ محمد عبده، و انتهاء بالشيخ حسن البنا، الذي تحدث عن قضايا التعليم في عدة مقالات له من قديم، و كان يهتم بهذه القضية، و يعلم أن التعليم أمر مهم، و أنا تحدثت في كتابي “الحل الإسلامي فريضة و ضرورة” عن قضية التعليم، و قضية التغيير في المناهج و الفلسفة، و ليس في الأساليب فقط، لأن كثيرا من الذين يهتمون بالقضية التربوية و التعليمية،  يهتمون بالوسائل و الأساليب، كيف نغير الوسائل التعليمية و الأساليب التي تُتخذ، بدل التلقين وسيلة الحوار و الأسئلة و التشويق، هذا مهم طبعا، و لكن المهم الفلسفة التي تقوم عليها التربية و يقوم عليها التعليم، ماذا نريد؟ من نريد أن نعلم؟ ماذا نريد أن نخرج؟ لان كل نظام من الأنظمة له فلسفة، الماركسي يريد أن يُخرج رجلا ثوريا، و الديموقراطيون و الرأسماليون يريدون الإنسان الليبرالي، و نحن نريد الإنسان المسلم المتكامل، الإنسان الناجي من الخسران في سورة العصر، {والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات و تواصوا بالحق و تواصوا بالصبر}، و أنا ذكرت هذا في بعض ما كتبت. فهذا أمر في غاية الأهمية، و يجب أن تهتم به الجماعات الإسلامية، و حركات الدعوة في كل مكان، و أن يتعاونوا على هذا الأمر.

< هل يجوز أن تستغل أموال الزكاة لإنشاء مؤسسات علمية إسلامية لصد الغزو العلماني في هذا الباب ؟

> نعم، يجوز، كل ما من شأنه أن يُعلي كلمة الله في الأرض، و أن يحفظ على الأمة هويتها وانتماءها، و يحميها من كيد الكائدين،و غزو الغازين، و الغزو ليس كله عسكريا، فالفقهاء الأقدمون ركزوا في تفسير “في سبيل الله”، على أنه كل ما يتعلق بالجهاد العسكري و الغزو العسكري، و الآن الغزو الفكري و الثقافي أهم من الغزو العسكري، فهو مقدمة لكل غزو بعد ذلك، و كما يقول مالك بن نبي، رحمه الله، إن المهم ليس هو الاستعمار، و إنما القابلية للاستعمار، فالشعوب تستعمر عندما تكون عندها قابلية لأن تستعمر، و هذا ذكره شيخنا الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، في أول كتابله: كتاب “الإسلام و الأوضاع الاقتصادية”، أن الأمة تختل فتحتل، يعني يحدث الاختلال و الانحلال، ثم يصبح بعد ذلك الاستعمار و الاحتلال، و استدل على ذلك بما جاء في سورة الإسراء عن بني إسرائيل: {لتفسدن في الأرض مرتين و لتعلن علوا كبيرا..} فإذا حصل الفساد حدث التسليط و العقاب بعد ذلك، فهو جزاء للفساد، الذي هو مقدمة. و أول الفساد هو الغزو الثقافي، و الغزو الفكري، و الغزو الاجتماعي، هذا هو الغزو الذي يهيئ العقول لتقبل الهوان و الذل و تقبل الآخر إن ساد على الإنسان، هذا هو المشكلة.

< أشرتم في كلام سابق إلى أنهم يركزون على طلاب المرحلة الابتدائية، و أشرتم إلى أن اليسوعيين “الجيزويت” يركزون على المراهق، و هذه النقطة ضرورية في هذا الحديث.

> نعم، ما ذكره الأخ الفاضل من أنهم يريدون أن يفرغوا التعليم الإعدادي و الثانوي من الجانب الديني و من التربية الإسلامية، و من العلوم الشرعية، و من كل ما يتصل بهذه الناحية، فيقصروا التربية الإسلامية على الابتدائي فقط، أنا أقول: هذا أمر في غاية الخطر، لأن المرحلة الإعدادية و الثانوية هي المرحلة التي يبدأ فيها ذهن الشاب و الشابة للتفتح و التلقي، و معرفة الأفكار، ففي هذا الوقت يحدث التغيير العقدي، و التغيير الفكري و التغيير الإيديولوجي، و لذلك بعض الجمعيات المسيحية و المهتمة بالجانب الديني و التبشيري، تركز فقط على جانب التعليم المتوسط و الثانوي، جماعة اليسوعيين “الجيزويت”، فعلا كل اهتمامهم بهذا، لا يهتمون بالطفل في الابتدائي لأنهم يقولون هذا سيتغير، و لذلك من الخطورة بمكان أن يحرم الطلاب في المرحلة الإعدادية و الثانوية من التربية الإسلامية، و من التعليم الديني، بالعكس نحن نريد أن نزيد الجرعة التربوية الإسلامية في هذه المرحلة أكثر من غيرها، لأنها هي المرحلة الأكثر أهمية و الأكثر خطورة، هذا أمر فيغاية الأهمية.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>