المادة الإسلامية من خلال واقع الأجرأة : رؤية نقدية للوثيقة الإطار من منظور الفلسفة التربوية الإسلامية (2/1)


المقصود بواقع الأجرأة مختلف العمليات والإجراءات المندرجة في سياق تنزيل مبادئ “الميثاق” وتصوراته على الواقع التعليمي التربوي، بدءا من عملية ترجمة الغايات العليا إلى مواصفات تتعلق بالخريجين، مرورا بتحديد النسق التفصيلي للقيم والكفايات المرصودة كمدخلات يراد تجسيدها في شخصيات المتعلمين، وصولا إلى وضع هيكلة الشعب التي تشكل قوام النظام التعليمي على مستوى التخصصات، مع تحديد المواد المرصودة لكل شعبة، ومعامل كل منها، وانتهاء إلى وضع  مفردات البرامج والمناهج الخاصة بكل مادة داخل كل شعبة، إضافة إلى  صياغة برامج تكوين الأطر التي تفي بمتطلبات إعداد شروط وأدوات التنفيذ والإنجاز، وتحقيق الأهداف والغايات الموجهة للنظام التربوي.

وسأحاول فيما يلي أن أقوم بعرض نقدي لما ورد في الوثيقة الصادرة عن لجنة الاختيارات والتوجهات التربوية والمعنوية ب “الوثيقة الإطار لمراجعة المناهج التربوية وبرامج تكوين الأطر”.

من خلال استعراض مكونات هذه الوثيقة واستقراء مفاهيمها وتصوراتها ومواصفاتها، يرتسم أمام أنظارنا بناء يتسم بقدر واضح من التناسق والإحكام، من حيث منطقه الداخلي، ومن حيث المخرجات المتوخاة على المستوى مآلات المتخرجين عند نهاية الأسلاك.

ولا ينقص من مصداقية هذا  الملحظ، احتواء الوثيقة على بعض المفاهيم التي يبدو للوهلة الأولى أنها تشكل نشازا عن النسق باعتبارها تنتمي إلى نسق فكري، أو جهاز مفاهيمي آخر، ذلك أنه عند إمعان النظر، يتبين بجلاء ـأن وجود تلك المفاهيم، إنما قصد به التمويه، لتمرير الخطاب، وإظهاره في صفة الخطاب الملتزم بمقومات المجتمع وخصوصيته الحضارية.

الوثيقة الإطار وقضية الموقف من المعرفة

مما هو معلوم في بناء المناهج، بالضرورة، أن طبيعة المعرفة كما هي متصورة ومتمثلة من قبل المسؤولين عن تخطيط المنهاج، تشكل الأساس الأول الذي يقوم عليه المنهاج التعليمي التربوي، وتتجلى خطورة مصدر المعرفة، في كونه مرتكز الحسم في الإجابة على السؤال المحوري: أي إنسان نريد؟ وأي مجتمع نريد؟ فبقدر ما تكون عليه مصادر المعرفة من الصدق والواقعية والإيجابية والفاعلية والشمول، ينعكس ذلك على المنهاج التربوي، وبقدر ما تغيب تلك الخصائص من مصادر المعرفة التي تعتمد في بناء المناهج التربوية، يكون غيابها من هذه أمرا لازما.

فواضح ـ إذن ـ أن ما تعانيه أية منظومة من اختلالات وتشوهات وأزمات، تنعكس حتما على مخرجاتها، على أجيالها من المتعلمين، ومن ثم على طبيعة البناء الاجتماعي والحضاري برمته، إنما مرده إلى ما تشكو منه مصادرالمعرفة من نقص وقصور على مستوى مطابقة مبادئها ومرتكزاتها للواقع، أي واقعالوجود الإنساني بأبعاده المتنوعة. وهذا القصور سمة لصيقة بأي فكر بشري، ولا تنفك عنه بحال.

وهذه الحقيقة الجوهرية تقتضي ـ عند أي اعتزام للتصحيح والإصلاح ـ إعادة النظر الجذرية في مصادر المعرفة المعتمدة، وكذا في مدى انسجام فلسفة تكوين المدرسين مع التصورات والمرتكزات والحقائق التي تقدمها مصادر المعرفة.

وإن قراءة فاحصة في “الوثيقة الإطار لمراجعة المناهج التربوية وتكوين الأطر” لتكشف لنا بوضوح عن التوجه الذي تتبناه في شأن مصدر المعرفة. ورد في الصفحة السابعة تحت عنوان “اختيارات وتوجهات في مجال المضامين” النص على: “الانطلاق من اعتبار المعرفة إنتاجا وموروثا بشريا مشتركا” و”اعتبار المعرفة الخصوصية جزءا لا يتجزأ من المعرفة الكونية” و”اعتماد مقاربة شمولية عند تناول الإنتاجات المعرفية في علاقتها بالإنتاجات الكونية” و”العمل على استثمار عطاء الفكر الإنساني عامة لخدمة التكاملبين المجالات المعرفية”.

إن هذه العبارات ناطقة بدلالاتها في غير ما التباس أو غموض وهي دلالات جازمة باستبعاد المرجعية الإسلامية، بل واستبعاد صفة الكونية عنها، بدليل عدها ضمن المعرفة الخصوصية، كجزء يلزمه الانضواء تحت لواء المعرفة الكونية التي من أبرز صفاتها كونها “إنتاجا وموروثا بشريا مشاركا”.

فهناك إذن رؤية تربوية موحدة على أساس المرجعية الكونية في نطاق الموروث البشري المشترك، وفي ظل عطاء الفكر الإنساني الذي تدعو، “الوثيقة الإطار” إلى العمل على استثماره “لخدمة التكامل بين المجالات المعرفية”. ونحن نتساءل إزاء هذه المعطيات الصارخة عن مصداقية “الوثيقة الإطار”، والحال أنها تشكل إحدى الحلقات الهامة في سلسلة عمليات الأجرأة لما ورد في الميثاق الوطني للتربية والتكوين”. فماذا يعني “اهتداء نظام التربية والتكوين للمملكة المغربية بمبادئ العقيدة الإسلامية” إن لم  يكن ذلك خضزعا لمقتضياتها واستلهاما لمفاهيمها ونزولا عند أحكامها وتنزيلا لها في المناهج التربوية على مستوى القيم والتصورات والأحكام، وعلى مستوى الروح العام الذي ينبغي أن يسري في كيان المنظومة، جملة وتفصيلا؟

وكون ذلك لم يحصل في مكونات الوثيقة الإطار وخطاطاتها التفصيلية يعني أن هناك انحرافا عن الخط الذي رسمه الميثاق من خلال مرتكزاته الثابتة.

إن الوثيقة الإطار وهي تعلن عن هذا التوجه بشأن الموقف من مصادرالمعرفة تعبر عن موقف غريب يفتقد إلى أدنى ملمح من ملامح العلمية والموضوعية، لأنها لا تعدو بموقفها ذاك أن تكون صدى للمنظمات الدولية التي تنخرط في حركة محمومة من أجل إخضاع الأمم والشعوب لنمط ثقافي وحيد، أعطي صفة الكونية، لا لشيء، إلا لأنه  إفراز للقوة المسيطرة على مستوى الغلبة العسكرية والإنتاج المادي، والتي تمسك بخناق الشعوب المستضعفة المهينة، وتسعى إلى كسب ولائها باعتبارهاتمثل مركز الكون الذي تتدفق منه المعارف والقيم كما تتدفق البضائع والسلع.

إن خاصية الكونية لا يمكن أبدا أن تكون قرينا لنمط ثقافي نبتت شجرته الملعونة وتغذت على قيم البطش والاستغلال ومصادمة الفطرة وتشييء العلاقات الإنسانية.

إن الوثيقة الإطار تصدر عن موقف متخلف في شأن إدراك الأساس المعرفي الذي ينبغي أن تبنى عليه المناهج التربوية، لأنها تغيب عامل الدين من اعتبارها في ذلك، اللهم إلا ما تعلق بذكره على مستوى الاستهلاك اللفظي، باعتباره مجرد عنصر فرعي ضمن نسق من العناصر تعرضها الوثيقة على أنها مجسدة لأنواع القيم التي يستهدف النظام التربوي تمريرها للمتعلمين. ويتعلق الأمر بأنواع القيم التالية: قيم العقيدة الإسلامية السمحاء، وقيم الهوية ومبادئها الأخلاقية والثقافية وقيم المواطنة وقيم حقوق الإنسان ومبادئها الكونية(1).

وألح هنا على وصف الوثيقة بالتخلف في هذا المضمار، لأنهالم تواكب ما تمخضت عنه الدراسات النفسية والتربوية من إدراك عميق لضرورة الحضور الشامل للدين في صلب المنظومات التربوية كشرط لتوازنها واستوائها، وكمخرج من الأزمات الخانقة التي تحيق بالمجتمعات الغربية. وبودي أن أسوق هنا شهادة لأحد علماء الغرب المتخصصين في الميدان يكشف فيها عن حقيقة الأزمة ويعبر عنها أبلغ تعبير، إنه عالم الاجتماع -إرنست بيكر- الذي “يناقش تطور التربية الغربية عامة والتربية الأمريكية خاصة التي قادها مربون من أمثال: جون ديوي وجورج كونت وبرونر إلى أن يقول: “إن نتائج هذه التربية هي إنجاب أمة أغنام توجهها وسائل الإعلام” وأن ثمرة التصور الضيق الذي طرحته التربية على الاجتماع والحياة “وتجاهل البعد الديني وقضايا المنشأ والمصير، لا يفرز إلا جماهير فارغة الرؤوس، لا تقدر على شيء إلا استهلاك مصادر الحياة في أفرانها” ثم يقول إرنست بيكر في موضع آخر ناعيا على مناهج التربية فصلها بين البعد العلمي والبعد الديني: “والواقع أن تأخر دراسة الحاجة للبعد الديني في المنهاج سببه تأخر تطور علوم الإنسان وفهم طبيعته وفهم أسباب الفشل الفردي والاجتماعي. ولكن حين بدأنا نفهم ذلك وقفنا على امتزاج البعد العلمي بالبعد الديني لأنهما قدما لنا المثل الأعلى في مجتمع المساواة الإنسانية، ومعنى “المعصية الاجتماعية”، إذن من المستحيل أن نفترض أن الإنسان قادر وحده على أن يكون مسؤولا عن كل المعاني التي يكتشفها، بل لا بد أن يكون مخلوقا متصلا باللامحدود ويحاول أن يؤسس أفعاله طبقا لذلك”(2).

إن هذه الحقائق وصل إليها مفكرو الغرب وعلماؤه بعد تجربة مريرة وـأزمات خانقة، فهل يعقل أن نسقط مرتين: مرة بالتولي عن ديننا الحنيف الذي يمدنا بمنهجية شاملة للتعامل مع الكون، ولممارسة تربية راشدة بناءة وفاعلة، ومرة أخرى بعدم الاعتبار بما تجرعته شعوب الغرب جراء اندفاعها في مصادمة الفطرة ومحاربة الدين؟

————————

1- انظر الفصل الخاص بأجرأة الإختيارات والتوجهات ص 24

2- مناهج التربية الإسلامية : عرسان الكيلاني ص 360.

في العدد القادم : الوثيقة الإطار وقضية الهوية:

ذ. عبد المجيد بنمسعود

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>