افتقار العمل التربوي للضوابط الشرعية


 

 

أهمية إحاطة العمل التربوي بالضوابط الشرعية

ثمة اعتبارات عدة تؤكد على إحاطة الجهود التربوية بسياج ضوابط الشرع ؛ منها:

الاعتبار الأول

التربية عبادة لله عز وجل

فلا بد لها أن تحاط بسياج الشريعة , وتضبط بضوابطها , وحسن النية ونبل العمل ليسا مبررًا لتجاوز الضوابط , وإذا كان الدافع للمربي هو تحصيل الأجر وابتغاء مرضاة الله عز وجل فهذا لن يتحقق له مع مخالفة أمر الله {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا(110)} سورة الكهف.

الاعتبار الثاني

التربية وظيفة شرعية

التربية شأنها شأن سائر الوظائف الشرعية الأخرى كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحكم بين الناس والجهاد , فإذا كانت هـذه الوظائف لا بد لها من إحاطتها بسياج الضوابط الشرعية فالتربية كذلك.

الاعتبار الثالث :  التربية قدوة

التربية قدوة قبل أن تكون توجيهًا، وعمل قبل أن تكون قولاً، والمربي ينبغي عليه أن يربي الناس بفعله قبل قوله ؛ فحين يجاوز حدود الشرع فكيف سيربي غيره على رعاية حدود الله والمتربي يرى المخالفة الشرعية ممن يربيه ويقتدي به ؟ وأثر إخلال المربي بالتزام الضوابط الشرعية في تربيته وعمله ينتج جيلاً يتهاون بحرمات الله .

الاعتبار الرابع : المربي تحت المجهر

إن المربي ينظر إليه :

1- بعين القدوة من داخل الجماعة.

2- بعين من الخارج؛ باعتباره واحدًا ممن يعمل للإسلام.

3- بعين تبحث عن الخطأ وتفرح به فتتخذ من أخطائه مدخلاً للنيل من المصلحـين ، وهو مسلك قديم ورثه هؤلاء عن أولئك الذين طعنوا في النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأنهم انتهكوا حرمة الشهر الحرام؛ ناسين أنهم واقعون فيما هو أكبر من ذلك من الصد عن سبيل الله والكفر به والمسجد الحرام , قال الله تعالى : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْــدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُـونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(217)} سورة البقرة.

الاعتبار الخامس : التوفيق بيد الله

إن التوفيق ليس مرده إلى الجهد البشري وحده ؛ بل قبل ذلك كله توفيـق الله ، وهذا التوفيق له أسباب أعظمها رعاية العبد لحرمات الله، وما أحرى أولئك الذين يتجاوزون الحدود الشـرعية بالبعد عن توفيقه ، وفي التعقيب على غزوة أحد بيان أن ما أصاب المؤمنين إنما كان بسبب أنفسهم {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير (165)} سورة آل عمران .

أسباب تجاوز الضوابط الشرعية للعمل التربوي

السبب الأول

ضعف العلم الشرعي وقلة العناية به

فكثير من العاملين في الساحة الإسلامية يأخذ العلم الشرعي مرتبة متأخرة ضمن برامجهم ؛ بل إن الأمر تجاوز مجرد إهمال العناية بالعلم الشرعي إلى تهميش دوره والتقليل من شأنه، ونحن إذ نقول ذلك لا ندعو أيضًا إلى أن يكون الجانب العلمي هو وحده الهم الأوحد للدعاة وأن يهمل ما سواه؛ لكننا ندعو إلى أن يجمع المربون بين الاعتناء بالعلم الشرعي والتعاطي المنضبط مع الثقافة المعاصرة والوعي بظروف العصر وأحواله.

السبب الثاني : الغلو والمبالغة في دور المربي وواجباته وتعظيم ذلك

وهذا يؤدي إلى نقل كثير من المناهي الشرعية إلى دائرة الضرورة ؛ إذ يرى المربي أن التربية لا تتم إلا بذلك فهو بحاجة لمعرفة معلومات دقيقة عمن يربيـه , وحين يعطى هذا الجانب أكثر من حقه ؛ سيشعر المربي أن الضوابط الشرعية ستقف عائقًا دون تأدية أوامر كثيرة ؛ فيضطر لتجاوزها

السبب الثالث : ضعف الورع

ومن يضعف ورعه ربما تجرأ على ما يعلـم علم اليقين أنه مـحرم أو تهـاون فيما هو في دائرة المشتبهات ؛ حتى إن بعض الصالحين غلب عليهم قلة الورع في حياتهم الخاصة، ومن ثم بدأ أثره في أعمالهم؛ بل بعضهم يرفض مبدأ النقاش في هذه القضايا من أساسه.

السبب الرابع : الإغراق في التنظير والأسباب المادية والغفلة عن الإخلاص

وحين يغيب هذا الأمر تسيطر الحسابات البشرية المادية ويغفل المرء عظمة قدرة الله ، ولا نعني أن يهمل الدعاة الأخذ بهذه الأسباب؛ لكن ينبغي أن لا تنسينا استحضار النية في هذه الأعمال.

السبب الخامس

قلة العناية بالمراجعة والمحاسبة

إذ هي توقف المرء على جوانب الخلل في عمله، ولا يسوغ أن يكون مانعًا عن المراجعة والمحاسبة :

1- أنه ورث هذا العمل عن من يحسن الظن بهم ويثق بهم ويثق بمسلكهم.

2- أن يكون النقد صادرًا ممن لا يرعى فيه الأدب الشرعي..

3- أن يكون النقد من أهل الإثارة واللغط على المصلحـين والمؤمـن يقبل الحق ممن جاء به ولو ساءت نيته أو أساء الأدب في عرضه

من صور الإخلال

بالضوابط الشرعية

الصورة الأولى : الاعتماد على القواعد الشرعية العامة المجملة دون النظر للنصوص الخاصة في المسألة، والشريعة لا يمكن أن تتناقض  والقواعـد العامة للشرع إنما تفهـم في إطار سائر النصـوص ومن أهم هذه القواعد مراعاة المصلحة؛ إذ كثير من المخالفات العظام في الساحة الإسلامية تجرأ عليها أصحابها باسم المصلحة , وإن جلب المصلحة ودرء المفسدة قاعدة شرعية عظيمة يجب أن تكـون ضمن ضوابط من أهمها أن لا تخالف نصًا وإلا كانت مصلحة ملغاة

الصورة الثانية

عدم وضوح قضية الظاهر والباطن

من القواعد الشرعية أخذ الناس بظواهرهم وعدم التنقيب عما وراء ذلك، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ) رواه البخـاري ومسلم والنسائي وأبو داود وأحمد كلهم من حديث أبي سعيـد الخدري , وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصـوت رفيع فقال : (يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ) رواه الترمذي. قال صلى الله عليه وسلم أيضًا لمعاوية : (إِنَّكَ إِنْ اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ أَوْ كِدْتَ أَنْ تُفْسِدَهُمْ) رواه أبو داود , وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( من أظهر لنا خيرًا ظننا به خيرًا وأجبناه عليه، ومن أظهر لنا شرًا ظننا به شرًا وأبغضناه عليه ).

وقد نص طائفة من أهل العلم على أن أحكام الشرع مبناها على الظاهر , فقال ابن القيم رحمه الله : ( فإن الله سبحانه لم يجعل أحكام الدنيا على السرائر؛ بل على الظواهر والسرائر تبع لها، وأما أحكام الآخرة فعلى السرائر والظواهر تبع لها ).

ومن صور التجاوز نتيجة غياب هذا المفهوم ما قد يمارسه بعض المربين ؛ حيث تدعو الشفقة والحرص والعناية المربي إلى محاولة معرفة ما وراء الظاهر منالتجسس و الاستماع لحديث غيره دون علمه , والدافع لذلك كله حسن؛ فهو يسعى للتربية والإصلاح، ويريد قياس نتاج تربيته، ويخشى أن يغتر بالمظاهر، لكن ذلك كله لا يسوغ أن يكون على حساب الضوابط الشرعية، ومما يعين المربي على الاقتناع بالوقوف عند حدود الظاهر:

أ- أنه غير مكلف شرعًا بما لا يظهر له، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عن نفسه : (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ) أخرجه السبعة ماعدا الترمذي عن أم سلمة , فإذا كان هذا الشأن في الحقوق والأحكام؛ فكيف بما هو دونها من أمور التربية والتوجيه؟

ب- المربي ليست مهمته إصلاح الناس وهدايتهم؛ بل ذلك أمره إلى الله وحده , إنما مهمته دعوتهم والاجتهاد في سلوك أقرب الطرق الموصلة لاستجابتهم , وهاهو محمد صلى الله عليه وسلم لم يستطع هداية عمه، وهاهو نوح مع ابنه، وإبراهيم مع أبيه، ونوح ولوط مع زوجتيهما، فوقوع المتربي في المعصية ليس بالضرورة دليلاً على فشل المربي أو تقصيره في مهمته.

ومما يعين المربي على تحقيق الاتزان في هذه القضية إدراك الارتباط بين صلاح الظاهر والباطن؛ فصلاح الباطن أو فساده لا بد أن يبدو أثره على ظاهر الإنسان، ومن ثم فليس بحاجة على التطلع إلى الباطن والتفتيش عنه.

الصورة الثالثة

التهاون بحجة مسائل الاجتهاد

ثمة قضايا كثيرة ضمن الوسائل الدعوية والتربوية اختلف فيها أهل العلم حلاً وحرمة، وبعض المربين يشعر أن هذه الأمور ما دامت ضمـن مسائل الاجتهاد فالباب فيها مفتـوح على مصراعيه دون ضوابط, فيسلك فيها ما يهواه دون أي اعتبار لأمر آخر؛ مع أنه لا بد أن يتحرى ويجتهد في اتباع ما يؤدي إليه الدليل الشرعي.

الصورة الرابعة :

إهمال الورع الشرعي الواجب

ومن ذلك :

أ- صحبة الأمرد مثلاً ؛ فقد شدد السلف في ذلك ، والآثار عنهم يضيق هذا المقام عن حصرها، ومنها ما رواه البيهقي في الشعب عن بعض التابعين؛ قال : (كانوا يكرهون أن يُحِدّ الرجل النظر إلى الغلام الجميل) , وروي عن عبد الله بن المبارك أنه قال: دخل سفيان الثوري الحمام فدخل عليه غلام صبيح فقال : (أخرجوه فإني أرى مع كل امرأة شيطانًا، ومع كل غلام بضعة عشر شيطانًا)، وقد غدت اليوم صحبة المربين لهؤلاء الأحداث ضرورة ملحّة ولا يسوغ أن يهملوا أو ينهى المربون عن صحبتهم بحجة لورع؛ ذلك أن واقع السلف كان يختلف عن واقعنا؛ فلم يكن البديل عندهم هو الشارع غير المنضبط أو التجمعات الساقطة مما شهده اليوم؛ بل كانت البيوت ومؤسسات المجتمع التربوية تتكفل بتربية هؤلاء والواقع شاهد بأن كثيرًا من هؤلاء حين ابتعدوا عن الميادين الصالحة انزلقوا في طريق الفساد.

ولكن على المربي أن يراعي ضوابط مهمة في ذلك منها:

1- عدم الخلوة.

2- عدم السفر مع الأمرد وحده.

3- مراعاة المبيت وما يتعلق به.

4- أن يبعد من ينشأ عنه تقصير وتهاون في هذا الأمر , ومن يلاحظ منه ميل للأحداث.

5- أن يبعد من تصدر منه تجاوزات لا تليق بأمثاله، وإن تاب منها.

ب-  التوسع في الوقوع في الأعراض فقد تدعو طبيعة العمل التربوي للحديث عن قضايا خاصة للمتربين وانتقادهم، وقد يتحدث بعض الأساتذة عن طالب معين بما يكرهه، والأصل في ذلك كله التحريم إلا ما كان له مصلحة شرعية واضحة؛ بل قد يصارح تلميذ أستاذه ومربيه بمشكلة فيتجرأ هذا المربي على الحديث عنها لغيره بما لا ضرورة له.

من كتاب  مقالات في التربية

(المجموعة الأولى)

< الشيخ محمد الدويش

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>