جيل التيه والخوف : يمر المجتمع العربي بمرحلة استعصاء تاريخي.. فالمواطن تائه والمثقف مدجن


في عام 1995 توفي اثنان من أعظم الكتاب العرب: علي الوردي عن 82 عاماً مخلفاً وراءه أكثر من ثلاثين مؤلفاً، والصادق النيهوم في عمر 85 عاماً. فأما الوردي فسار في جنازته أفراد قلائل على خوفٍ من فرعون وملئه أن يفتنهم. وأما النيهوم فمات مثل أبو ذر الغفاري، يمشي وحده ويموت وحده. الكاتب سعد البزاز وصف الوردي بأنه أكبر عالم اجتماع في وطنه وكان حرياً أن يودع بجنازة تليق به من خصومه والأصدقاء. ولكن لم يكن الخصوم ليسيروا في جنازة الوردي في بلاد غابت عنها تقاليد الحوار وبات من النادر احترام الرأي الآخر، وتحولت الخلافات الفكرية إلى سكاكين تقسم الناس، فحيثما ينعدم احترام الرأي الآخر يصبح التشبث بالخصام والنزوع إلى الإيذاء بعضاً من مظاهر الانفصام العام في شخصية المجتمع. وأماالأصدقاء فلا شك أن الخوف “شل أقدامهم عن الخروج إلى الشارع في تظاهرة الوداع وحيث يوجد رعب جماعي تزداد الهواجس ولا يعود بإمكان الناس الإفصاح عن هويتهم الفكرية في لحظة مشوهة من التشظي في تركيبة المجتمع”.

مات الوردي تاركاً وراءه مؤلفات تأسيسية للفكر، مثل “منطق ابن خلدون” و”وعاظ السلاطين” و”مهزلة العقل البشري” و”موسوعة تاريخ العراق الحديث”. ومات النيهوم تاركاً وراءه مؤلفات مثيرة، مثل “محنة ثقافة مزورة” و”من سرق الجامع” و”إسلام ضد الإسلام” و”قرود ..قرود”. ويطرح البزاز سؤالاً: للوصول إلى عروق الكوارث من نحن؟ وهل نحن شعب واحد حقاً؟ ولماذا توالت الكوارث علينا؟ أهو عقاب إلهي قررته الأقدار؟ أم أن الكوارث هي نتاج جلدٍ جماعي للذات؟ ليصل إلى تحليل يدعو للتأمل ولا يخلو من قدر من الحقيقة، فينقل عن الوردي: “أنه حذَّر من قدوم العوام من ريف متخلف إلى المدن” الذي سيؤدي إلى اجتياح المجتمع المدني على يد العسكر واغتصاب مؤسسة الدولة وتريف المدينة بقيم الثأر والعنف.

وهناك من يرى أن بعض أنظمة الحكم لا تزيد عن تحالف الريف ضد المدينة. واستبدال إقطاعيي الأراضي بزعماء القبائل الأمنية الجديدة بفارق أن مضارب القبيلة امتدت إلى كل الدولة والمجتمع ولا ضمانة لأي شيء أو إنسان في أي زمان أو مكان. لينتهي البزاز إلى أن “إعادة دور المدينة” سيؤدي إلى سلسلة من التحسينات مثل: “إذابة الفروق العرقية والمذهبية ـ رد الاعتبار إلى مفهوم الدولة ـ فرض النمط السلمي لحل المشاكل ـ إعادة إنعاش مجالس الفكر”.

مات الوردي فلم يسر في جنازته إلا رهط من الناس، وأما النيهوم فضاع رمسه. وهذه المكافأة من الأمة لمفكريها مؤشر خطير عن غيبوبتها التاريخية، ومصير الوردي يذكر بنهاية ابن رشد الذي كوفئ في نهاية حياته بالنفي إلى قرية يهودية وحرق مؤلفاته، وأما الطبري، المفسر والمؤرخ، فقد دفن سراً تحت جنح الظلام خوفاً من الرعاع الذين اتهموه بالرفض، وأما مالك بن نبي فهو مجهول في بلده الجزائر أكثر من أي بلد آخر. ويبدو أن الفكر يبحث له دوماً عن تربة مناسبة. هكذا انتقلت أفكار بوذا إلى الصين، وهرب الهوجنوت من فرنسا إلى برلين، كما لجأ النساطرة إلى بغداد، وفر علماء القسطنطينية بعد الفتح العثماني باتجاه الغرب.

إن هجرة الفكر تحدث حينما يلج الوطن استعصاء تاريخي فتمتلئ المعتقلات بالأحرار ودار الغربة باللاجئين السياسيين. والوطن العربي اليوم مقيد في زنزانة تاريخية من أربع زوايا متبادلة التأثير بين مواطن تائه وفقيه غائب عن العصر ومثقف مدجن.

لقد آن الوقت لاستيعاب ثلاث حقائق: التخلي عن التعظيم الذي يقترب من التأليه، والحب الجنوني، وأن شخصاً ما يستطيع أن يلم بكل شيء. والديموقراطيات اليوم تعكف على تشريح بشرية الزعماء أكثر من تقديسهم، فهذا العمل يفيد والثاني يعطل. إن دخول المجتمعات هذا النفق الأسود ليس غريباً عن التاريخ، وحالة استعصاء من هذا النوع تنتهي في العادة بثلاث كوارث: اجتياح خارجي ـ تحلل داخلي يفضي إلى حرب أهلية أو ثورة ـ أو تحنط إلى أجل غير مسمى في براد مشرحة الموتى.

والجثة عندما تدخل الموت تمر عبر ثلاث بوابات: أولاً المحافظة على الشكل مع توقف الوظيفة، وهو ما يسميه الطب الشرعي بـ”الصمل الجيفي” فتصبح الجثة قطعة واحدة من خشب. ثم تدخل الجثة مرحلة التفسخ والتحلل فتتصاعد رائحة الموت. ثم تدخل مرحلة الاجتياح الخارجي لتبدأ طوابير لا تنتهي من فرق الحشرات تتناوب على التهامها في نظام ثابت يبدأها الذباب الأزرق وينهيها النمل وخنافس الشحم في ما لا يقل عن 500 من الحشرات، بحيث يهيئ التهام كل فريق الجثة للموجة التي بعده في ساعة بيولوجية لا تخطئ، حتى تذوب بالكامل في التراب وتعود إلى دورة الطبيعة.

إن القرآن ينقل إلينا أخبار الأمم التي دخلت نفق الاستعصاء التاريخي فلم ينفعها إلا الاستئصال الكامل مثل الورم الخبيث. هكذا دُمر مجتمع نوح في ظل دعاء مزلزل: “رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا” فغسلوا من وجه الأرض بالطوفان. وأما قوم لوط فقد أحرقوا بالبركان لتطهير الأرض من احتمالات انفجار أمراض فيروسية تقضي على الجنس البشري كما في الايبولا والايدز، بعد أن تورط كامل المجتمع بالشذوذ الجنسي وأصبح الذي لا يمارسه عرضة للسخرية: “إنهم أناس يتطهرون”. وأما عاد فأُرسلت عليهم ريح صرصر عاتية فترى القوم صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية. وهناك استعصاء تاريخي واجهه فتية الكهف بعد أن دخل المجتمع نفق الاستبداد ومعالجة المارقين بالرجم ففروا مع كلبهم بعد أن لم يبق لأحد ضمانة بما فيها الكلاب. ولكن أعظم استعصاء تاريخي كان في المجتمع الفرعوني. وعندما ذهب موسى عليه السلام بمهمته التحريرية كان واضحاً في خطابهلفرعون أنه لم يأت لإصلاح المجتمع الفرعوني بل أن يمنحه بني اسرائيل الذين أصبحوا أدوات عبودية في آلة النظام الفرعوني “أن عبَّدت بني اسرائيل”.

إن قصة كاملة في القرآن عن البقرة، في أطول سورة، تحمل الترميز العميق لمأساة دخول المجتمع حالة الاستعصاء التاريخية. وعندما يحلل المؤرخ توينبي ظاهرة انبثاق الحضارة يرى أنها “الاستجابة الملائمة للتحدي” فيقول ان الموت وضع يده الباردة على المجتمع الفرعوني عندما انتقل التحدي من الطبيعة إلى النفس. فعجزت الحضارة الفرعونية عن مجاراة هذا التحول الجديد. كان المجتمع الفرعوني قد دخل ليل التاريخ وفقد الطاقة الإبداعية وتكسر إلى شرائح دونية وفوقية من مستضعفين ومستكبرين. وكانت مهمة موسى محصورة في خطة على ثلاث مراحل: الخروج بجيل “الخوف” من مصر، ثم دفن جيل التيه في الصحراء، ثم خروج جيل الحرية إلى القدر الجديد. ولا توجد قصة مشروحة بتفصيل معرسم كل المشاعر الدقيقة وخلجات النفوس والتعبيرات وعلى نحو مكرر كما جاءت في مواجهة موسى لأعظم حضارة على ظهر الأرض يومها. كانت حضارة قد شاخت وارتفعت فيها الأصنام والهياكل ومات فيها الإنسان. وفي الوقت الذي كانت ترفع الأهرامات التي هي مدافن لأشخاص زائلين كانت عظام أمم كاملة تطحن في مقابر جماعية..

إن بني إسرائيل نجحوا في عبور البحر تحت مظلة المعجزة ولكن لا فائدة من جيل مريض نشأ في العبودية وتركت السياط في ظهره أنفاقاً. وكانت مهمة موسى غير قابلة للإصلاح: فأمام “المن والسلوى” كان لعابهم يتحلب لمذاق الثوم والبصل. ومع تظليل الغمام في هجير الصحراء طلبوا أن يروا الله جهرا. وعند المرور على قوم يعكفون على أصنام لهم قفزت مجموعة لتقترح على موسى أن يجعل لهم “إلهاً كما لهم آلهة”. وعندما رجع بالألواح ليرسي التشريع في المجتمع كان القوم يعبدون عجلاً جسدا له خوار “فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي”. وعندما اختار قومه سبعين رجلاً للميقات أخذتهم الرجفة ثم رفع الجبل فوقهم كأنهم عصا ممدودة، خذوا ما آتيناكم بقوة. ولكن لا فائدة من كل المعجزات مع عبيد ضمرت أجهزتهم النفسية وتحولوا إلى أقزام أمام مهمات العمالقة. وفي النهاية أمام تحدي دخول الأرض المقدسة لم يكن أمام موسى إلا أن يدعو أن يفرق الله بينه وبين القوم الفاسقين ليدفن هذا الجيل المتعفن في رمال الصحراء في تيه يدوم أربعين سنة ويخرج جيل جديد لا يعرف إلا الحرية والشمس، وهو الذي يعول عليه في مشاريع الاقتحام الكبرى.

ومن هذا التوقيت الزمني يستنبط ابن خلدون قانون عمر الجيل. إن مرض “بني إسرائيل” مرض إنساني ثقافي وليس جينيا وراثيا، وليست هناك من أمة محصنة ضد الإصابة به. والجميل في قصة بني اسرائيل: الوحي والمعجزة والقيادة المبدعة. والمجتمع العربي اليوم يفتقد الثلاثة، فكيف يمكن أن يخرج من هذا الاستعصاء التاريخي؟

إننا في الواقع نتمتع بميزة فريدة سببها التطور التاريخي. فبقدر عمل الأنبياء السابقين على قانون المعجزة بقدر عمل النبي محمد صلى الله عليه وسلم على سنن تغيير المجتمع داخلياً، فمجتمع قريش لم يُدَمَر بالطوفان أو الزلزال أو الجراد والقمل والضفادع والدم، بل بالعمل على أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله. وكان التحول في نصف جيل. ولكن تسارع الزمن انقلب اليوم. فبدلاً من خروج بني إسرائيل من الأرض الظالمة يتم اختراق حزام دول التيه والخوف من كل مكان بالانترنت والمحطات الفضائية والكلمات المنقوشة في الهواء على ثبج البحر الأخضر الالكتروني. إن التحول هنا كما يقول ألفِن توفلر في كتابه “صدمة المستقبل” ان الزلزال يحدث والتحول يتم دون نقلة جغرافية. والمراهنة اليوم هي على ارتفاع مستوى الوعي عند جيل التيه ليزول الخوف. ويروي مالك بن نبي عن جيلين من الصينيين اجتمع بهم في باريس، فأما الأول فكان يلتفت حوله حينما ينطق يرتعش من الخوف، وكان الثاني يتحدث بقوة ويعبر بصراحة. فالفرد عينة من المجتمع مثل عينة الدم من الجسم، قد تكون سليمة وقد تظهر الإصابة بسرطان دم.

خالص جلبي

الشرق الأوسط ع 01/6/20

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>