إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة، من يطع الله تعالى ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله تعالى ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله تعالى شيئا
إن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
عـبـاد اللـه
لقد سمعتم ورأيتم بعض العمليات القتالية التي يقوم بها أفراد من شعب فلسطين المحتلة فسماها البعض عمليات انتحارية، وحكم لها الآخرون بأنها عمليات استشهادية جهادية. وتعلمون أن الخطأ في الحكم على هذه العمليات تترتب عليه آثار سلبية خطيرة، فما هو وجه الحق في هذه العمليات؟
عباد الله
تعلمون أن الإسلام حرم قتل النفس ونهى عن تمني الموت، واعتبر المنتحر قاتل نفسه، وحكم عليه بالعذاب المخلد يوم القيامة فمن هو المنتحر؟ ومن هو المستشهد؟
من هو المنتحر؟
إن المنتحر هو الذي يقتل نفسه بسم أو خمر أو خنجر أو إحراق أو إغراق أو شنق أو ترد، أو رصاص أو جوع أو ظمإ أو غير ذلك مما يزهق روحه في الحين أو على مهل. وذلك بسبب فشل في الحياة الزوجية، أو الصناعية أو التجارية أو الإدارية أو العلمية أو بسبب عجز عن تحقيق الملاذ والشهوات، أو فشل في الشهرة وبطولات الغناء واللعب أو بسبب حمق أو تخدير أو إسكار أو للتخلص من مرض خبيث مزمن إلى غير ذلك من الأسباب، والغرض عند المنتحر هو إنهاء الأزمات النفسية، ووضع حد للمآسي والآلام التي يعاني منها. وحكمه في الشرع أنه جاحد أو ناس لقدرة الله قانط يائس من رحمة الله، متمرد على ربه، رافض لقضائه وقدره، ولذلك غضب عليه ربه وحكم عليه بالخلود في النار يعذب فيها بما قتل به نفسه في الدنيا.
من هو المستشهد؟
أما المستشهد فهو ناجح في حياته، محافظ على عقيدته وعبادة ربه، متطهر من الخبائث، مقبل على الطاعات، يعاني من هموم أمته، ويتحسر لمحنها، ويسهر بحثا عن الحلول الناجحة لمشاكلها يتألم لآلامها، ويجتهد لتخليصها وتحريرها ويشتاق لسيادتها وعزتها، لا يدفعه لقتل نفسه حب الثناء بعد موته، لا يزعجه فقر ولا مرض ولا فشل يريد أن يتخلص منه بمفرده، إنه يضحي بحياته انتقاما من الظالمين، وإرهابا للمغتصبين، ودفاعا عن أرض الإسلام وحماية للعقيدة وإظهارا لعزة المسلمين وقوتهم، ورغبة فيما عند الله. إن المستشهد بخلاف المنتحر في كل شيء، في النية والعمل والوسيلة والهدف، إن المستشهد يستخير الله في كل خطوة ويعرض على الشرع كل فكرة، ولا يقدم على فعل شيء إلا بعد معرفة حكم الله ورسوله فيه، فهو على بينة ونور من ربه فهل المستشهد كالمنتحر؟ إن المستشهد همه الآخرة، والمنتحر همه بطنه وفرجه! فهل يستويان؟
عباد الله
إن الرجال المومنين الذين يقتحمون صفوف الأعداء، ويوقعون فيهم الخسائر المتنوعة لا يخلو منهم زمان، فهم نماذج الجرأة والاقدام التي تقتدي بها الأجيال عبر الزمان والمكان، ومن هؤلاء الرجال الأبطال في عصر الصحابة عمَيْرُ بن الحُمام الأنصاري في غزوة بدر، وأنس بن النضر في غزوة أحد والبراءُ بن مالك يوم اليمامة وغيرهم كثير ولم ينكر عليهم رسول الله ولا أحد من الصحابة، بل ذكرهم الله ورسولُه بخير، قال تعالى : {رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا} وضمن رسول الله لهم الجنة والرضوان
وقد وعد الله سبحانه الذين يقتحمون حصون الكفار ويطأون أراضيهم، ويبثون فيهم الرعب، وعدهم الله بالثواب الجزيل، والأجر الجليل ووصفهم بالمحسنين قال تعالى : {ولا يطأون موطئا يغيظ الكفار، ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين. ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم، سيجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون}.
اللهم أعز الإسلام بالشهداء واهزم بهم الظلمة الأعداء، وأكرم نزلهم عندك اليوم وغدا عند اللقاء. آمين والحمد لله رب العالمين.
حكم الشرع
في العمليات الاستشهادية
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على نبي الرحمة والهدى، وعلى آله الأطهار، وصحابته الاخيار
وبعد : تعلمون -عباد الله- أن اليهود حصنوا أنفسهم بمختلف التحصينات العتيدة الحديثة، فما يستطيع الفلسطينيون اليوم أن ينالوهم بسوء يؤثر فيهم تأثيرا بليغا إلا عن طريق العمليات الجهادية التي يعجز اليهود عن اكتشاف أصحابها ووقتها وأماكنها، وقد علمتم كيف يصيب اليهود الأهداف الفلسطينية وغيرها نظرا لدقة الخرائط، وإحكام التوجيه الآلي، ولا يخيف الأعداء الصهاينة إلا صبرُ الفلسطينيين وإقبالُهم على الموت والاستشهاد بهذه العمليات التي يسميها بعض المسلمين انتحارا، ويحكم بحرمتها، ويدعو إلى إيقافها. فما هي أقوال علماء الإسلام في هذه العمليات؟ وهل يجوز أن تسمى انتحارا، أو يجب أن تسمى استشهادا؟
قال محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة : >لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين وهو وحده، لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة، أو نكاية العدو. فإن لم يكن كذلك فهو مكروه لأنه عرّض نفسه للتلف في غير منفعة المسلمين. فإن كان قصده تجرئة المسلمين على بعض الوجوه، وإن كان قصده إرهاب العدو، وليعلم صلابة المسلمين في الدين فلا يبعد جوازه، وإن كان فيه نفع للمسلمين، فتلفت نفسه لاعزاز الدين، وتوهين الكفر، فهو المقام الشريف الذي مدح الله تعالى المومنين بقوله : {إن الله اشترى من المومنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} إلى غيرها من آيات المدح التي مدح الله تعالى فيها من بذل نفسه في سبيل الله.
وقال أبو بكر بن العربي المالكي بعد أن نقل أقوالا مختلفة للعلماء في هذه العمليات : قال : >والصحيح عندي جواز الاقتحام على العساكر المحاربة، لمن لا طاقة له بهم -لأن فيه أربع منافع كطلب الشهادة، ووجود النكاية في العدو وتجرئة المسلمين عليهم، وإضعاف نفوسهم، ليروا أن هذا صنع واحد فما ظنك بالجميع!
وقال ابن تيمية : روى مسلم في صحيحه عن النبي قصة أصحاب الأخدود وفيها : >أن الغلام أقر بقتل نفسه لأجل مصلحة ظهور الدين، ولهذا جوز الأئمة الأربعة أن ينغمس المسلم في صف الكفار، وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه، إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين<
وبتدبر أقوال العلماء يتبين أن هدف العمليات إذا توفر فيها شرطان فهي عمليات استشهادية محمود صاحبها مثاب عليها أجزل الثواب، فإن تخلف شرط كانت عملية انتحارية ينهى عنها الإسلام، والشرطان هما : الإخلاص لله تعالى ورجحان إصابة الكفار بسوء.
وقد يشترط بعض الناس أن تنفَّذ هذه العمليات وسط الجنود، لا وسط المدنيين، فليعلم أولا أن المستوطنين المدنيين اليهود كلهم مسلحون رجالا ونساء، وأنهم يشاركون في قتل المسلمين وثانيا : أن الإسلام منع قتل العجزة والنساء والأطفال ما لم يشاركوا في القتل، فإذا شاركوا في القتل قوتلوا. فمن هم المدنيون المسالمون في اليهود، وقد رأيتم حتى الأطفال الصغار يقتحمون حرمات المسلمين، وهم محروسون بجيش الاحتلال الغاصب! وهل رجال الدين عندهم مدنيون؟ إنهم أشد اليهود حربا وبغضا وانتقاما من المسلمين.
عباد الله
من كان من المسلمين محاصرا مضَيَّقاً عليه، محارَبا في أرضه ودينه، ونفسه وأهله، وهو يستطيع أن يُعمل وسيلة تؤثر في عدوه، وتفقده الثقة في نفسه وخطته، ولم يُعملها، كان ذلك دليلا على الرضى بالعبودية والبقاء في الذل والهوان والتعلق بالحياة تحت القيود والأغلال، والعياذ بالله.
(دعاء الختم)
< د. محمد أبياط