دور التربية على المبادئ في نشأة القاعدة الصلبة


موضوع الابتلاء هو الطريقة التي يتناول بها الإنسان متاع الأرض.. هل يقف فيه عند الحدود المأمونة التي قدرها الله -وهو اللطيف الخبير الذي يعلم من خلق، ويعلم ما يصلحه وما يصلح له- أم يسرف ويتجاوز الحدود، فينقلب المتاع سمّا مهلكاً يضر أكثر مما ينفع، أو يضر ولا ينفع؟ : {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} (الملك : 14). {تلك حدود الله فلا تعتدوها} (البقرة : 219). {تلك حدود الله فلا تقربوها} (البقرة : 187).

لقد كان إنسان الجاهلية العربية غارقا في الشهوات، يعبُّ منها بمقدار ما يتيح له وضعه الاجتماعي، ووضعه الاقتصادي، لا يرى في ذلك بأساً، بل يراها فخرا و كرامة! ويسوغها بمنطقه المعتل :

يقول طرفة بن العبد :

ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى

وجدك لم أحفل متى قام عوّدى

فمنهن سبقى العاذلات بشربة

كُمَيْتٍ متى ما تُعْلَ بالماء تزبد

وكرّى إذا نادى المضاف محنبا

كسيد الغضا -نبهْتَه- المتورد

وتقصير يوم الدجن، والدجن معجب

ببهكنة تحت الطراف المعمد

فيذكر الخمر والنساء والحرب، وذلك بعد أن قال قبلها :

ألا أيهذا اللائمى أحضر الوغى

وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدى؟

فمادام الخلود مستحيلا -في واقع الحياة الدنيا- >فالمنطق< في الجاهلية أن يعب الإنسان من الشهوات بقدر ما يستطيع، لأنها فرصة واحدة، إن ضاعت لا تعود.

أما إنسان الجاهلية المعاصرة، فالشهوات في حياته هي الأصل الذي يعيش من أجله، وإن كان يعمل وينتج فمن أجل أن يحصل على الوسيلة التي تتيح له أكبر قدر من المتاع! يستوي في ذلك من كانت شهوته هي السلطة فيعمل على اكتسابها، أو شهوته هي الملْك فيعمل على اكتسابه، أو شهوته هي الجنس ولذائذ الحس، وهي التي جعلتها الجاهلية المعاصرة سعاراً محموما للصغير والكبير، والعاقل والمجنون والرجل والمرأة على السواء!

أما الهدف فلا هدف في الجاهلية أبعد من الحياة الدنيا، وما فيها من المتاع المتاح : {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} (الجاثية : 24). {إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين} (المؤمنون : 37). {فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم} (النجم : 29-30). {يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون} (الروم : 7).

دور المبادئ في نشأة القاعدة الصلبة

وحين ينحصر الإنسان في الحياة الدنيا وأهدافها القريبة -مهما بدت بعيدة- فإنه يفقد كثيرا من كيانه الذي خلقه الله له، حين خلقه من قبضة من طين الأرض، ونفخ فيه من روحه.. يفقد القيم العليا، التي هي القوام الحقيقي للإنسان : {إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} (ص71-72)

فأما إنسان الجاهلية العربية فقد كان أبعد همه هو القبيلة وما يدور حولها من أحداث وأحاديث، لذلك كان حفظ الأنساب والفخر والهجاء، وأخبار المعارك، والكر والفر، هي عالمه الذي يعيش فيه، ويعيش من أجله، ويقول في الشعراء شعرهم، ويكون هو سمرهم في منتدياتهم، وموضع تنافسهم فيما بينهم.. إلى جانب ما يمارسونه من تكاثر في الأموال والأولاد، وما يمارسونه من الشهوات.

وأما إنسان الجاهلية المعاصرة، فهو أشد ضلالاً وانحصاراً في الحياة الدنيا وعالم الحس، وأشد بُعدا عن القيم العليا وتكاليفها، لتكالبه على المتاع الحسي، ولأن صانعي هذه الجاهلية حريصون على إبعاده إبعادا كاملا عن كل قيمة إنسانية، ترفع الإنسان عن محيط الحيوان، لذلك تفننوا في تزيين الأرض، وتزيين المتاع الدنس بكل وسيلة تخطر -أو لا تخطر- على البال.

وفي الجاهليات كلها -قديمها وحديثها- حين ينحصر الناس في الحياة الدنيا ولا يؤمنون بالبعث والنشور والحساب والجزاء، تبدو الحياة في نظرهم عبثا لا معنى له، ولا قيمة للقيم فيه، إلا بمقدار ما تخدم شهوات الإنسان ومصالحه في عمره المحدود، وتنتاب الإنسان الحيرة التي عبّر عنها الشاعر الجاهلي المعاصر (ايليا أبو ماضي) في هذه الأبيات :

جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت!

ولقد أبصرت قدامي طريقا فمشيت!

وسأبقى ماشيا إن شئت هذا أو أبيت

كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟

لست أدري!

ولهذا كانت الخمر دائما جزءا من الجاهلية، لأنها وسيلة للهروب من الشعور بعبثية الحياة، وهو شعور ثقيل على النفس، كما يغرق الناس في اللهو، لقتل الوقت الذي يظل فارغا وثقيلا، حين يفرغ الناس من صراعاتهم الهابطة ومصالحهم القريبة، ويبحثون عن هدف  يملأ الفراغ فلا يجدون.

في الجاهلية العربية كانت الخمر ومجالس الشراب وألعاب الميسر وسيلتهم الكبرى للهروب.. وفي الجاهلية المعاصرة صارت المخدرات إلى جانب الخمر، وصارت المراقص ودور اللهو ونوادي القمار… وفي الجانب الآخر صار القلق النفسي والأمراض العصبية، والانتحار والجنون، حين لا تفلح الوسائل كلها في رفع الشعور بعبثية الحياة عن كاهل الحس. تلك كلها أسباب وراء الشتات الذي يصيب النفس البشرية في الجاهلية، والإيمان هو الذي يجمع النفس من الشتات ..

الإيمان معناه ابتداءً : الاعتقاد بأنه إله واحد لا إله غيره.. وأن كل الآلهة الأخرى وكل الأرباب، وكل المعبودات من دون الله، وَهْمٌ لا حقيقة له، ولا وجود له إلا في ظنون أصحابه، وهي ظنون لا تغني من الحق شيئا.. ومعناه أنه لا معبود بحق إلا الله، لأنه لا إله في الحقيقة غيره، فكل عبادة موجهة إلى غيره باطلة من أساسها، لأنها موجهة لمن لا ألوهية له في الحقيقة.. ومعناه الالتزام بما جاء من عند الله، لأنه لا يستقيم في الحس أن يكون هو المعبود الحقيق بالعبادة وحده، ثم يطاع غيره في معصيته! ومعناه في نهاية الأمر ان الله هو المشرع، هو الذي يحدد الحلال والحرام، والحسن والقبيح، والمباح وغير المباح، وهو الذي يضع الحدود التي يمارس الناس فيها متاع الحياة الدنيا، وهو الذي يضع للناس منهج الحياة ويحدد لهم ما يعيشون له من أهداف.

ومن شأن هذا الإيمان ألا يبقى سببا من أسباب الشتات التي يتطرق بها الى النفوس..

حين يتوحد الإله المعبود تنتهي من الحس تماما كل الآلهة المزعومة، التي تشتت النفس في اتباعها، ولكل منها مطالب، ولكل منها نزعات أو شطحات لا تلتقي في اتجاه واحدَ، فتتوزع النفس بينها، وكل إله منها لا يمارس ألوهيته إلا على حساب إله آخر :{ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون} (الزمر : 29)

وحين يتوحد الإله المعبود تنضبط الشهوات في حدودها التي حددها الله، فتصبح غذاء صالحا للنفس، ولا تعود سما مهلكا، ولا هما مقعدا مقيما، لا يرتوي ولا يشبع، ولا يدع للنفس فرصة للسكينة والهدوء..

وحين يتوحد الإله المعبود يتحدد الهدف الذي ينظم في داخله كل الأهداف وتتحدد القيم التي تحقق الأهداف. وتذهب عن الحياة عبثيتها، حين يؤمن الإنسان بالبعث والنشور، والحساب والجزاء.

الرسول  مربي القاعدة

إذا كان هذا دور المبادئ في نشأة القاعدة الصلبة، فلنقل كلمة سريعة عن دور المربي ، أعظم مرب في التاريخ، ولن نوفيه حقه  في هذه الكلمة ولا في كلمات.. وحسبه ما شهد له به ربه المنعم الوهاب :  {وإنك لعلى خلق عظيم} (القلم : 4)، ولكنا لا نستطيع أن نتعرف على تلك القاعدة، دون أن نلم ولو إلمامة سريعة بالأثر الضخم الذي أحدثه وجود الرسول  بشخصه الكريم العظيم بين ظهرانيهم.

إن الأتباع يقبسون دائما شيئا من صفات قائدهم، من خلال حبهم له ومصاحبتهم إياه، وقد يكون هذا بغير وعي كامل منهم، فإن الإعجاب بشخصية القائد يدفع الأتباع تلقائيا إلى محاولة التشبه به في بعض أعماله، وبعض أقواله، وبعض مواقفه، وبعض تصرفاته، وقد كان هذا حادثا بالفعل من الصحابة رضوان الله عليهم، تجاه نبيهم الذي يحبونه حبا فوق كل حب، ويوقرونه فوق كل توقير عرفه أتباعٌ تجاه قائدهم في التاريخ كله..

سأل هرقل أبا سفيان، ولم يكن قد أسلم بعد، عن حال المؤمنين مع النبي ، فقال : ما رأيت أحدا يحبه الناس كحب أصحاب محمد محمداً.

ولكن الأمر مع رسول الله ، لم يكن مقتصرا على هذا الإعجاب الذي يؤثر في الأتباع بغير وعي كامل منهم، إنما كان تأثرا واعيا بأمر من الله الذي آمنوا به وأسلموا وجوههم له، وبأمر من الرسول ذاته  : {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} (الأحزاب : 21). {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب} (الحشر : 7). {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم منالأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه} (التوبة : 120). {ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} (الأنفال : 24).، >لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده<، >صلوا كما رأيتموني أصلي<، >خذوا عني مناسككم<.

ذلك أنه ليس مجرد قائد يقود جماعة من الناس، إنما هو نبي يبلغ عن ربه، ويبين للناس ما نزل إليهم، فطاعته أمر، وطاعته عبادة لله : {ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} (النساء : 59). {من يطع الرسول فقد أطاع الله} (النساء : 80).

لذلك اجتمع للرسول  من أتباعه ذلك الحب الفائق الذي يفوق كل حب والالتزام بالطاعة التي هي عبادة لله، فاجتمع له من التأثير في نفوس أصحابه، رضوان الله عليهم، ما لم يكن له مثيل في التاريخ… تأثير الشخصية الفذة، وتأثير المبادئ الفذة كلاهما في آن …

فأما المبادئ فقد تحدثنا عنها إجمالا في الفقرة السابقة، وسنعود إليها بالتفصيل فيما بعد.

أما شخصية الرسول  فقد يجزئنا في هذا المقام أن نقول : إنها شخصية جامعة، جمعت ما تفرّق في أشخاص الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم : روحانية عيسى، وصبر نوح، وحزم موسى، ورقة إبراهيم عليه السلام.. إلى خصال تفرد بها  ، لم تُتح لنبي قبله.. فاجتمع فيه شخصية القائد السياسي الذي يجمع أمة من شتات، ويبوئها مكانا عاليا بين الأمم.. وشخصية القائد العسكري، الذي يربي جيشا فذا في شجاعته وقوة بأسه، ويخوض به أنبل المعارك.. وشخصية المربي الذي لا يألو جهدا في تربية أتباعه على القمة من الأخلاق الفاضلة.. وشخصية العابد المتبتل الذي لا يغفل عن العبادة، آناء الليل وأطراف النهار.. وشخصية المجاهد الذي لا يفتر عن الجهاد.. وشخصية الزوج المثالي والأب الرحيم الودود.. وكل ذلك على توازن في الشخصية، لا يطغى منها جانب على جانب، ولا ينشط جانب على حساب جانب.. لا جرم يكون تأثيره في أتباعه أعظم تأثير أحدثه نبي في قومه، وأعظم تأثير أحدثه بشر في التاريخ.

< ذ محمد قطب <

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>