هذه السورة معروفة عند عامة المسلمين بسورة التغابن لورود كلمة “التغابن” فيها في قوله تعالى : {يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن} وهو يوم القيامة. هذه السورة مدنية عند عامة العلماء إلا من شذ وهو قليل، وجوها وحديثها وما ورد فيها من موضوعات يُشير إلى أن السورة مدنية كما سيأتي سبب نزولها، هذه السورة نزلت بالخصوص في قضية أناس من المسلمين أسلموا بمكة وأرادوا الهجرة مع رسول الله فمنعهم أبناؤهم وأزواجهم. كان الرجل يسلم، وكان مفروضا عليه أن يلتحق برسول الله في المدينة لتتكون الدولة الإسلامية، إذ كان مفروضا على كل المسلمين أن ينتقلوا من مكة إلى المدينة مهاجرين كما فعل الرسول وأصحابه الأُوَّل. وهذا كان أمرا ضروريا. فمن لم يكن قد هاجر يومها فقد كان آثما.
بقاء المسلمين بمكة بعد صلح الحديبية كان لنشر الإسلام وتسهيل الفتح
واستمر الاسلام يتقوى ويكبر في المدينة المنورة، حتى صلح الحديبية الذي كان من شروطه أن الذين يأتون من مكة مسلمين مهاجرين إلى المدينة، بعد الصلح، فإن النبي يردهم بمقتضى الشرط، ومن ارتد فالإسلام لا يطالب به، ورأى الصحابة في هذا الشرط جورا وظلما وحيفا إذ كانوا يرون أنهم لم يكونوا من الضعف بحيث يقبلون بهذا الشرط، ولكن النبي قبل بهذا الشرط، ثم كان الخير كله في اتباع الرسول عليه السلام، لأن الذين كانوا يهاجرون إلى النبي كانوا يفرغون مكة من الإيمان، كلما تكونت نواة من الإيمان بمكة إلا والتحقت بالمدينة والمدينة الآن لم تعد في الضعف الذي كانت عليه بعد الحديبية إذ أصبح لها جيش، أي لم تعد محتاجة لأهل مكة لتتقوى بهم وأصبح من الممكن أن يبقوا في مكة، فليست المدينة في حاجة شديدة إليهم كما كان الأمر أول الهجرة. وبقاؤهم في مكة لا يضر، فأُلْزِمُوا بأن يبقوا هنالك بمقتضى هذه المعاهدة، وجاء أبو بصير إلى النبي ملتحقا وهو مسلم، فرده النبي عليه السلام إلى قريش، فقال : يا رسول الله أتردني إلى قريش يفتنونني في ديني؟ قال : سيجعل الله لك مخرجا، فرد النبي أبا بصير إلى مكة، وأحس يومها بالغبن وبالظلم الشديد، وبأنه لا يستطيع أن يهاجر، فجمع مجموعةمن المستضعفين من أهل مكة وخرج بهم على طريق مكة، وصار يعترض قوافل مكة وتجارتها وصار شرا عليهم، إلى أن أرسلوا إلى رسول الله ، بأن يأخذ إليه أبا بصير ويريحهم من عنائه. لكن المهم أن مكة ظل فيها الإسلام وحينما جاء الإسلام من بعد وجاء الرسول فاتحاً لمكة لم يكن الفتح صعبا لأن مكة نفسها كانت تعج بالإيمان.
كان المؤمنون موجودين ومستورين ومتخفين، فلذلك حينما جاءت جيوش الإسلام لتفتح مكة استسلم الناس وسلموا بالأمر وفرح المسلمون بذلك.
المسلمون في يوم الحديبية كانوا يرون أنه بالإمكان أن تشن هذه الفئة من المسلمين الغارة على مكة، ويدخلوها قوة ومغالبة، كان عمر يتميز غيظا ويقول : كيف نعطي الدنية في ديننا، أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟
فبين الله تعالى لماذا منع المسلمين من أن يشنوا الغارة على أهل مكة لأن مكة كان فيها مسلمون مختفون لا يعرفهم أحد، فهذا هو السّبب الذي منع الله من أجله دخول المسلمين إلى مكة بالقوة رحمة بأولئك المسلمين المستضعفين {ولولا رجال مومنون ونساء مومنات لم تعلموهم أن تطأوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا} فرحمة بالمسلمين المستضعفين منع الله تعالى الجيش الإسلامي من أن يتقدم إلى مكة.
لا هجرة بعد الفتح
ولكن جهاد ونية
كان هذا كله مما يتعلق بالهجرة، فكانت الهجرة إذا واجبة، ثم توقفت في الحديبية، ثم فتحت مكة فقال النبي : >لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية< أي لا هجرة من مكة إلى المدينة لأن مكة أصبحت دار إسلام والمدينة دار إسلام، فلا فائدة من الخروج من مكة إلى المدينة بل يبقى المسلمون في مكة والمدينة والبصرة وفاس وفي كل المدن فليس للإسلام بغية في أن يتجمع الناس كلهم في مدينة واحدة، إذا رفعت فريضة الهجرة وبقيت فريضة أخرى هي الهجرة العامة أي الهجرة من المكان الذي يوجد فيه المسلم ولكنه لا يأمن فيه على دينه.
وباب الهجرة عند علماء المسلمين واسع ومدروس بدقة، ومن الكتب التي أشرت إليها غيرما مرة كتاب “علم النصرة في أحكام الهجرة” وهو كتاب مهم جدا في أحكام الهجرة إلى بلاد الكفر والبقاء فيها وما إلى ذلك. إن هؤلاء الناس كانوا يريدون أن يهاجروا التزاما بهذا الأمر، لكن أبناءهم كانوا يقفون أمامهم، وكانت عواطفهم ترق إذا رأوا أبناءهم يبكون ويتألمون، فكان هذا سبب نزول هذه السورة.
من جملة أغراض السورة
التحذير من الخضوع للأولاد والأزواج في غير طاعة للله
وورد كذلك أن عون بن مالك المجاشعي وهو من الصحابة كان يريد أن يخرج مع النبي لبعض الغزوات فيجتمع حوله أولاده الصغار ويبكون أمامه، بكاءً شديداً فيرق لذلك قلبه ويتوقف ويجلس عن الجهاد، فأنزل الله في هذه السورة ما يمنع به الاستسلام والتنازل لهذه العاطفة مع أنها عاطفة قوية، وذكر الله تعالى حينذاك أن من أزواج المسلمين ومن أولادهم عدوا لهم، أي الولد حينما يمنع الأب عن الطاعة، وإذا صار حب الولد سببا إلى المعصية أو عائقا دون الطاعة فإن الولد سيهلك أباه ويمنعه من الخير، وهو ما يقع لكثير من الناس، لا يؤتي الزكاة ليجمع لأبنائه لا يشارك في خير ليجمع لأبنائه، إنه دائما في خوف على أبنائه، ولا يعلم أن خوفه هذا هو الذي سيُرديه فيما بعد، لأنه سوف يعصي الله تعالى مبالغة منه في الرحمة المفروضة. والأولاد تجب العناية بهم لكن إلى حد لا يوصل الناس إلى جهنم. والأبناء الآن هم محركات الجر للمعاصي