ورقات حول المنهج النبوي في الإصلاح والتغيير (1)


مقدمة لابد منها : أهمية المنهج النبوي في الاصلاح والتغيير كنموذج فذ وفريد للأمة الاسلامية في تدافعها الحضاري

لقد جعل الله سبحانه وتعالى الإصلاح والتغيير سنتين من السنن الكونية التي لا يستقيم أمر الدين والدنيا إلا بهما ولا تسير الحياة سيرها الطبيعي إلا من خلالهما، حيث إن بقاء الأمر على حالة واحدة مستقرة لا تتيغر أو تتبدل هو من المحال. فدوام حالة الصلاح والإلتزام بالمنهاج الرباني على طول الخط أمر لا يستقيم وطبيعة الإنسان ذلك أن الحق جل وعلا خالق الإنسان يعلم بموطن الضعف في هذا المخلوق وبتأثره بمحيطه الخارجي المتمثل في الزمان والمكان، ويعلم أن هناك أموراً ستطرأ وتظهر، وأخرى ستتغير وتتجدد وسيكون لها بالغ الأثر على صلاحه وسلامة تفيكره، وأمر الانحراف هذا قد أخبر به رسول الله  في حياته قبل موته في الحديث الذي رواه ابن حبان حيث قال رسول الله  : >لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة فكلما انتفضت عروة تشبت الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة<، فمسار الإنحراف قد ظهر مبكراً منذ نقض الحكم في عهد بني أمية من منهج الخلافة الراشدة القائمة على الشورى إلى نظام الملك العضوض القائم على توارث الحكم(1) ثم توالي مسلسل نقض عرى هذا الصرح العظيم إلى أن أصبح بعض الناس مسلمين بالإسم فقط بعد أن نقضوا عروة الصلاة وإن لم يكن هذا على الصعيد العام ولكنه واقع ملموس في صور شتى ومتعددة. ولهذا فإن أي تغيير أو إصلاح يجب أن يبدأ من هذه الركيزة الأساسية في البناء الإسلامي “إقامة الصلاة” لتبني من جديد عرى الإسلام عروة عروة لنصل بإذن الله إلى بناء نظام الحكم على صورة الخلافة الراشدة كما بشر بذلك رسول الله  : >إنها تكون نبوة فتبقى في الأرض ما شاء الله لها أن تبقى ثم ترفع، ثم تكون خلافة راشدة فتبقى في الأرض ما شاء الله أن تبقى ثم ترفع، ثم يكون الملك العضوض فيبقى ما شاء الله له أن يبقى ثم يرفع ثم يكون الملك الجبري فيبقى ما شاء الله له أن يبقى في الأرض ثم يرفع ثم تكون خلافة راشدة على منهاج النبوة<، ونلاحظ أن كل هذه المراحل قد استنفذت ونحن اليوم نعيش في العالم الإسلامي ملكاً جبرياً رغم اختلاف أشكال الحكم الموجودة اليوم -ملكي أو رئاسي أو ثوري- فإن السمة التي تجمع بينها سمة الملك الجبري، ولم يبق قيد التحقق إلا الشطر الأخير >..ثم تكون خلافة راشدة على منهاج النبوة<.

وإذا كان الأمر هكذا فلابد للأمة من مصلحين يصلحون أحوالها ويغيرون هذا الواقع المشهود نحو الواقع المنشود. واقع الدولة الإسلامية بحضارتها وقيمها وعدلها.. لتكون النتيجة إقامة خلافة راشدة على منهاج النبوة.

فأمر الإصلاح والتغيير أمر حتمي وضروري ليستقيم الأمر على ما يدعو إليه العقل والشرع، وقد أخبر رسول الله  بأن الله يقيض لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها أمر دينها، إلا أن هذا الإصلاح والتغيير يجب أن يخضع لمنهاج يستند إليه في مرجعيته ويقيمه على ركائز متينة في إجرائه عملياً وتطبيقياً فلا يمكن أن يكون أي مصلح مصلحاً سواءا كان فرداً أم جماعة أو صفوة يطمح لخلافة راشدة على منهاج النبوة إلا بالاستناد على المنهج النبوي الفذ والفريد. المنهج الذي كان الإجراء العملي للمنهج القرآني والذي جمع خلاصة الدعاة المصطفين من الله من الأنبياء والمرسلين وخاصة أولي العزم منهم إنه المنهج النبوي الشريف الذي وفر له الله جل وعلا كل الظروف ليتكامل ويسمو. فقد اختار الله جل وعلا لخاتمة الرسالات أفضل بني آدم وميزه بخصائص ومميزات لم ولن تتوفر في غيره ففَقِه واقعه وتفقه تنزيل شرع الله على هذا الواقع. إن الدعوة النبوية في الإصلاح والتغيير تعتبر الجهد الحضاري النموذجي الذي تكاملت فيه قدرات البناء والعطاء مع المحافظة على منجزات هذا البناء وحماية المرجعية التي يستند إليها في تصوراته بشكل اتسم بالإخلاص الكبير والحكمة البليغة والتدرج السليم والحركة المتأنية وفق الطاقة المتوفرة، فاستحق فعلاً أن يكون الإطار المرجعي لأي دعوة تغييرية وقد أكد ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى : {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً}<(2).

ثم إن السمات الكثيرة التي يتصف بها المنهج النبوي في إجرائه العملي سواء التي ذكرت منها والتي لم تذكر تجعل استيحاء المنهج النبوي في مواجهة أعباء البناء وتحديات للواقع أمراً ضرورياً وأساسياً لإستقامة الوجهة وانتظام السير والأمن من المزالق والتجارب الفاشلة.

وإذا كان استيحاء المنهج النبوي أمراً ضرورياً فهذا لا يعني قراءة أحداثه قراءة سردية تاريخية وانزال واقع العهد النبوي على واقعنا المعاصر بدون مراعاة للعوامل الثلاثة في التغيير : الإنسان الزمان، المكان، وهي محددات أساسية لتجميع التصور العام للتغيير. وهنا يتدخل المنهج الاستنباطي في قراءة السيرة النبوية كمنهج يحاول :

أولا : التأمل فيها ودراستها دراسة شاملة وفق محيطها الذي نبتت فيه ثم إيجاد روابط تربط بين الواقع الحالي وواقع العهد النبوي وذلك مع التمييز ما بين ما هو وحي وما هو اجتهاد إنساني.

ثانيا : استخلاص القوانين والسنن الكونية ووضع القواعد الكلية انطلاقاً من هذه الأحداث الجزئية مما ينتج عنه فهم الظاهرة وإصلاحها إصلاحاً علمياً صحيحاً.

(1) تجد هذا مفصلاً ومبيناً في كتاب د. محمد قطب : “هل نحن مسلمون”.   // (2) منهج النبي   في حماية الدعوة والمحافظة على منجزاتها خلال الفترة المكي ص 43، للطيب برغوث بتصرف.

يتبع

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>