هل اتضحت قضية الحاكمية عند الدعاة أنفسهم، أم ما يزال بعضهم تختلط عليه الأمور، مرة من مقالة ابن عباس رضي الله عنهما، (كفر دون كفر) ومرة من أثر الفكر الإرجائي الذي يفصل بين الإيمان والعمل، حتى لو كان العمل نقضاً صريحاً للا إله إلا الله، كالتشريع بغير ما أنزل الله؟
وإذا كان الأمر ما يزال مختلطاً عند بعض الدعاة، فماذا نتوقع من أمر الجماهير؟ وكم من الجهد مازال أمامنا، حتى تتضح هذه القضية بغير غبش في حس الناس، ويتمكنوا من رؤية الحق الرباني فيها دون أن تستوحش نفوسهم من الحق؟!
هذا في قضية الحاكمية، وهي ليست وحدها التي تحتاج إلى تجلية في قضية “لا إله إلا الله”.. فتحرير القضية يستلزم تخليصها كذلك مما يشتبك بها من قضايا الوطنية والقومية والعدالة الاجتماعية، وأمثال ذلك من القضايا التي تداخلت معها في مسيرة الدعوة.
الحاكمية وقضايا الوطنية والقومية والعدالة الاجتماعية في عهده
لقد كانت أمام الرسول قضايا كثيرة يمكن أن يثيرها للاستكثار من >الجماهير<.
كان الفرس يحتلون جزءاً من الجزيرة العربية، والروم يحتلون جزءاً آخر، وكان في إمكان الرسول أن يثير حمية العرب القومية لتلتف حوله الجماهير، حتى إذا اجتمعوا وآمنوا بزعامته قال لهم : قولوا (لا إله إلا الله).
وكانت هناك قضية اجتماعية، فالأغنياء يصلون إلى درجة الثراء الفاحش، والفقراء يصلون إلى درجة الفقر المدقع، ولا أحد يفكر في الحد من غنى الأغنياء، بإلغاء الربا -على الأقل- وأخذ جزء من الفائض من الأغنياء، وردّه على الفقراء لرفع مستواهم، وكان في إمكان الرسول أن يثير القضية، فتلتف حوله جموع الفقراء المسحوقين، فيكون منهم قوة يواجه بها جبروت قريش، وفي حمية الصراع يقول لهم : قولوا (لا إله إلا الله).
وكان غير ذلكمن القضايا مادة مفيدة في تجميع الجماهير وإثارة حماستهم، ثم استمالة الناس للدعوة من خلال تلك القضايا العامة، التي تستهوي بطبيعتها كثيراً من الناس، فيتجمعون لها بسهولة، ويلتفون حول من ينادى بها، ويمنحونه وُدَّهم وحماستهم، ولكن رسول الله -بتوجيه من الوحي الرباني- لم يثر أية قضية من هذه القضايا في فترة التربية بمكة؛ وإنما أثار القضية الواحدة التي جلبت له عداء >السادة< وبالتبعية عداء الجماهير، وظل مصراً عليها وحدها، حتى أذن الله أن تتفتح لها قلوب أفضل الخلق بعد رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم.
ولم يكن ذلك لأن هذه القضايا كلها ليس لها أهمية في حياة الأمة، كلا! فقد تناولتها الحركة الإسلامية كلها واحدة إثر الأخرى؛ ولكن لأن القضية الكبرى -في المنهج الرباني وفي واقع البشر- هي قضية لا إله إلا الله، التي يتوقف عليها منهج حياة الإنسان في الدنيا، ومصيره في الآخرة، ولأن قضايا الحياة كلها -في المنهج الرباني- يجب أن تكون نابعة من لا إله إلا الله، ومرتبطة بها ارتباطاً حيوياً، فيتوفر لها الصدق والإخلاص والتجرد. ومن ثم جرى المنهج الرباني على تحرير قضية لا إله إلا الله أولاً، وتجريدها من أي شيء يمكن أن يشوبها في مرحلة التكوين، لتكون عبادة خالصة لله، هدفها رضوان الله وحده، حتى إذا تمحضت في قلوب أصحابها، وُصلت بها كل قضايا الأرض اللازمة لحياة الأمة، دون خشية من اختلاط الأمور في تلك القلوب، بينما الخشية قائمة في مرحلة التكوين، وحين يحدث الاختلاط في المنشأ، فما أسرع ما تغلب مصالح الأرض، وتصبح مداخل للشيطان!
فهل تجردت اليوم قضية لا إله إلا الله في قلوب الدعاة أنفسهم -ودع عنك الآن قلوب الجماهير- فتمحضت لتقرير العبودية الخالصة لله، غير مختلطة بقضايا القومية والوطنية والعدالة الاجتماعية، والدعاة -من أجل استمالة الجماهير- يتحدثون عن >اشتراكية الإسلام<، و>ديمقراطية الإسلام<، و>التعددية في الإسلام<.
تحرير قضية الشرعية بين الغرب والاسلام
هل تم تحرير قضية الشرعية، لا نقول عند الجماهير، بل عند الدعاة أنفسهم؟ ما مفهومنا عن الشرعة؟
في الغربة الثانية للإسلام -وخاصة بعد تنحية الشريعة الإسلامية عن الحكم في معظم بلاد المسلمين -نسينا معاييرنا الإسلامية، واستبدلنا بها معايير الغرب، خاصة في مجال >السياسة الشرعية<.
والغرب يقول : إن مقياس الشرعية هو النجاح في الانتخابات.. فمن فاز بأكبر عدد من الأصوات فهو صاحب الشرعية الذي يحق له أن يتولى الحكم.
ودعك مؤقتاً من التغير الحاد الذي أصاب هذا المعيار، حين كان الفائزون بأكبر عدد من الأصوات هم الإسلاميين في الجزائر! فقد عوّدنا الغرب >العظيم!< أن يكيل بمكيالين في أي قضية يكون المسلمون طرفاً فيها، وذلك لشدة إيمانه بالقيم والمبادئ واحترام الآخر، واحترام حقوق الإنسان!!
دعك من الغرب ومواقفه، وتعال نسأل الإسلاميين : ّهل هذا هو المعيار الإسلامي في هذه القضية؟ هب أن إنساناً أو حزباً أو هيئة -أو ما يكون من الأشكال السياسية- حصل على أغلبية ساحقة في الانتخابات، حصل على مائة في المائة من أصوات الناخبين، ثم لم يحكم بما أنزل الله، فهل تكون له شرعية في دين الله؟!
لقد اختلط علينا -في غربة الإسلام الثانية- أمران مختلفان : طريقة اختيار الحاكم، ونوع الحكم الذي يُحكَمُ به الناس..
وحين كان الإسلام هو الحاكم في الأرض الإسلامية، تكلم فقهاء السياسة الشرعية عن الشروط الواجبة في الحاكم، وتكلموا عن البيعة الحرة، وعن الشورى، وعن غيرها من الأمور المتعلقة بسياسة الحكم، وتحدثوا عن >فقه الضرورة<، وما يمكن التنازل عنه من الشروط تحت ضغط الضرورة، فقالوا : >وللمتغلب السمع والطاعة<.. ولكن لم يدُرْ في خَلدهم قط أن حاكماً يمكن أن يشرع بغير ما أنزل الله، ثم يكون حاكماً شرعياً على المسلمين!!
إن الشرط الأساسي لشرعية الحكم في الإسلام، أن يكون التشريع القائم هو الشريعة الربانية، ومر بنا في العدد الماضي قول ابن كثير رحمه الله في الحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله، إنما يحكم بتشريع مخالف للشريعة. فهل تحررت هذه القضية في أذهان الدعاة أنفسهم، فضلاً عن الجماهير.. أم إن حديثنا كله يجرى حول الانتخابات، وهل هي حرة أم مزورة؟ وكم صوتاً نلنا حتى الآن في البرلمان؟ وكم يلزمنا من الجهد لزيادة نصيبنا من الأصوات؟! إن الظن بأننا إذا حصلنا على أغلبية في البرلمان، فسيترك لنا المجال لتطبيق شريعة الله، ظن ساذج إلى أقصى درجات السذاجة، ويكفي واقع الحال في الجزائر دليلاً على ذلك.
ولكن اختيارنا لهذا الطريق -من حيث المبدأ- من أجل الوصول إلى الحكم، ثم محاولة تطبيق شريعة الله من هذا الطريق، مخالفة شرعية؛ لأنه يجعل الناس هم المرجع في اختيار نوع الحكم الذي يُحْكَمُون به، (ولا نتحدث هنا عن اختيار الحاكم)، فإذا اختاروا الإسلام حكَمَ الإسلام، وإذا اختاروا غيره حكم غيره! فهل هذا هو الإسلام؟!
وأين نحن من قوله تعالى : {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن تكون لهم الخِيَرة من أمْرهم}(الأحزاب : 36).
إن مصدر الإلزام في تحكيم شريعة الله ليس هو اختيار البشر أو عدم اختيارهم ماداموا مسلمين.. فماداموا مسلمين فقد لزمهم التحاكم إلى شريعة الله بداهة، وإلا انتهى الإيمان عنهم إن أعرضوا عن شريعة الله، واتجهوا إلى غيرها من الشرائع، وإن صلّوا وصاموا وزعموا أنهم مسلمون!
{ويقولون آمنّا بالله وبالرّسول وأطعْنا ثم يتولى فريقٌ مِنهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين، وإذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فـــريق منهم مُعرضون} (النـــور : 47- 48). {فلا وربك لا يؤمنون حتى يُحكِّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت ويُسلّموا تسليماً}(النساء : 65).
حقيقة إنه لا يمكن في عالم الواقع أن يحكم الإسلام ما لم يكن هناك مؤمنون، يصرون على تحكيم شريعة الله، ويرفضون أي شريعة سواها، يقيناً منهم أن الرضى بشرع غير شرع الله كفر مخرج من الملة.. وأن هذه العينة من المؤمنين هي الآن قلة في المجتمع تستضعفهم الجاهلية وتعصف بهم.. هذه حقيقة، ولكن مقتضاها هو أن نظل ندعو، ونظل نبين للناس هذه الحقيقة، أنه لا إيمان لأحد إذا رضي بشرع غير شرع الله، ونظل نربي الناس على مقتضيات هذه الحقيقة، حتى تصبح القاعدة المؤمنة من القوة بحيث يصبح في يدها مقاليد الأمور، وهذه هي مهمة الدعوة في وقتها الحاضر، مهما طال بها الأمر لتحقيقها، وليست مهمتها أن تستفتي الناس عن طريق صناديق الانتخاب : هل يريدون أن يكونوا مسلمين أم لا يريدون! فهل وضحت هذه القضية في حس الدعاة أنفسهم، فضلا عن الجماهير، أم إنهم انزلقوا بغير وعي منهم إلى معايير الديمقراطية التي تجعل الجماهير -في ظاهر الأمر على الأقل(1)- هم المحكّمين في نوع الحكم، وليس الله الذي له الخلق والأمر : {ألا له الخلق والأمر} (الأعراف : 54).. وهذا مفرق طريق رئيسي بين الجاهلية والإسلام!