خطب منبرية : الطريق إلى بيت المقدس


الحمد لله، له الحمد في الأولى والآخرة، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه الباطنة والظاهرة، وأسأله بمنه وكرمه أن يجنبنا كبائر الإثم وصغائره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، هدى به القلوب الحائرة، وجمع به الأقوام المتناحرة صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه مصابيح الهدى والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد :

أيها المسلمون

حدّث نبينا محمد  عن أنباء ومستقبل هذه الأمة في آمالها وآلامها، وأخبر عن مغيبات تحدث لها في القادم من أيامها، حذرها من مواطن السقوط والزلل، ونبأها بمواطن البلاء وحوادث الزمن، أخبر بما حدث وما يحدث إلى قيام الساعة، حدث بأحاديث الفتن والملاحم، منذرات ومحذرات ومبشرات وانتصارات، أخبر بذلك عليه الصلاة والسلام لا ليكون سبيلا للعجز والاتكال، أو طريقا إلى التخاذل والاستسلام، أو ركونا إلى الانطواء والانزواء، إنما أوضح ذلك لأمته ليضعها أمام مستقبل سوف تعيشه، وملاحم سوف تقع بين يديها، ليكون هذا الإنباء والإخبار باعثا على التنمية والإيقاظ والحذر والاتعاظ واتقاء تيار الفتن احتياطا لكل طارئ وتدبيرا لكل مفاجئ وتبصيرا للأمة بأهمية هذه الأحداث من أجل أن تتهيأ لها وتحشد طاقاتها وتستجمع قدراتها فتتخذ لها ما يناسبها.

أيها المسلمون

لعل من المناسب في هذا المقام والملائم لأحداث هذه الأيام الحديث عن بعض نبوءاته  عن الأرض المقدسة وفلسطين وبلاد الشام، ومستقبل أحوالها في الحديث النبوي والبيان المحمدي، إخبار من لا ينطق عن الهوى ، حديث يثيره ما يعشعش في بعض نفوس الأمة ويعيش في واقعهم من مآس ومصائب ونكبات وهزائم وذل ومساومات وبؤس وإحباطات واستبعاد للنصر ورضى بالذلة وقعود عن التطلع نحو العزة.

أيها المسلمون

فلسطين يملكها المسلمون أجمعون وليست لجيل دون جيل، هي ملك لكل أجيال الأمة إلى قيام الساعة، وإن تخاذل متخاذل فسيخرج الله من أصلاب المتهاونين المتخاذلين من يقوم بما قام به نور الدين وصلاح الدين. فدولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة، فلسطين جزء عزيز غال من ديار الإسلام، ديار مباركة باركها الله وبارك فيها، دلت على ذلك الآيات وتكاثرت في ذلك النصوص، يقول الله عز وجل في إبراهيم ولوط عليها السلام {ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين}، ويقول في سليمان عليه السلام {ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين}.

ديار النبيين، ومأوى الصالحين، أرض المحشر والمنشر، دار القبلة الأولى، منتهى المسرى، ومنطلق المعراج، ديار الثغور الجليلة والمرابطات الفاضلة، مهاجر إبراهيم، وديار أيوب، ومحراب داود، وعجائب سليمان، مهد عيسى، ومسرى محمد ومعراجه عليهم جميعا صلوات الله وسلامه.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ذكر بعض خصائصها وفضائلها : >فيها الطور الذي كلم الله عليه موسى والذي أقسم به في سورة الطور وسورة التين، وفيها المسجد الأقصى ومبعث الأنبياء وهجرة إبراهيم وإليها مسرى نبينا ومعراجه، وبها ملكه وعمود دينه وكتابه، والطائفة المنصورة من أمته، وإليها المحشر والمعاد، كما أن مكة المبتدأ فمكة أم القرى والشام إليها يحشر الناس فمكة مبدأ وإيليا معاد، مبعثه ومخرج دينه من مكة وكمال دينه وظهور تمامه حتى يمكن للمهدي في الشام،< انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله.

أيها المسلمون

تأملوا هذا الترابط العجيب : أقسم الله تعالى بالطور ثم أقسم بالبيت المعمور {والطور، وكتاب مسطور، في رق منشور والبيت المعمور} وتأملوا الترابط الآخر حين أقسم سبحانه بطور سينين ثم أقسم بهذا البلد الأمين {والتين والزيتون، وطور سينين، وهذا البلد الأمين}.

بلاد الشام على أرضها يحسم خطر اليهود كما يحسم خطر الدجال ويأجوج ومأجوج، وتأوي إليها طائفة المؤمنين ويستقر ملك المهدي عليه السلام، يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا، وينزل عيسى بن مريم ليحكم بالعدل، وعلى أرضها تفيض الخيرات وتعم البركات، على هذه الأرض صدّت جموع التتار من الشرق، واندحرت رايات الصليبية من الغرب، وعليها تندحر بإذن الله أعلام اليهود وتنكس رايات العدوان.

أيها المسلمون

أحداث جسام وأحوال في تاريخ الأمة عظام صحت بها الأخبار وأنبأ بها نبي الرحمة والملحمة محمد  وتأتي فلسطين السليبة في قلب هذه الديار ويأتي بيت المقدس في قلب القلوب فإذا أحب المسلمون أرض الشام وفلسطين وشدّت إليها قلوبهم وتعلقت بها نفوسهم فإنما يحبون أرضا تهوى إليها النفوس، ديار النبيين وميراث المرسلين، لا غرو أن ترتبط بالعقيدة ولا جرم أن تتمسك الأمة بها وبكل شبر منها، فلا يستكثر عليها جهاد ولا تصغر دونها تضحية،وليس عظيما أن يتساقط الشهداء على ثراها المبارك الطهور المقدس، ثم كذلك لا غرابة أن يهاجمها أعداؤنا في الصميم وتتكالب علينا قوى الشر.

عن عبد الله بن حوالة ] قال : قال  : >ستجنّدون أجنادا، جندا بالشام، وجندا بالعراق، وجندا باليمن، قال عبد الله، فقلت : خر لي يا رسول الله -أي اختر لي- فقال : عليكم بالشام فمن أبى فليلحق بيمنه وليسق من غدره فإن الله عز وجل قد تكفل لي بالشام وأهله< قال ربيعة : فسمعت أبا إدريس يحدّث بهذا الحديث فيقول : من تكفل الله به فلا ضيعة عليه، وفي لفظ آخر : >سيصير الأمر إلى أن تكون جنود مجندة جند بالشام وجند باليمن وجند بالعراق عليك بالشام فإنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده، فإن أبيتم فعليكم بيمنكم واسقوا من غدركم فإن الله قد توكل لي بالشام وأهله<(أخرجه أحمد في مسنده وأبو داود في سننه والحاكم وغيره). قال الهيتمي رجاله ثقات وقال مرة أخرى رجاله رجال الصحيح غير صالح بن رستم وهو ثقة.

وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله  يقول : >ستكون هجرة بعد هجرة فخيار الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم<(أخرجه الطبراني في الكبير والحديث صحيح لغيره، وبعض طرقه صحيح من طريق أبي أمامة عند الطبراني أيضا).

أيها المسلمون

يرتبط بأحاديث الشام وأحاديث الفتن من المبشرات والموقظات حديث الطائفة المنصورة طائفة أهل الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، فعن ثوبان ] قال : قال رسول الله  : >لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك<، عن جابر ] عن النبي  قال : >لن يبرح هذا الدين قائما تقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة<، وفي حديث عقبة بن عمار ] عن النبي  قال : >لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة<، يقول الإمام النووي رحمه الله معلقا على هذه الأحاديث وأمثالها : “وفي هذا معجزة ظاهرة فإن هذا الوصف ما زال بحمد الله تعالى من زمن النبي  إلى الآن ولا يزال حتى يأتي أمر الله المذكور في الحديث، إنها الطائفة المنصورة، طائفة ذات مسؤوليات جسام، طائفة مجاهدة مستمسكة بالحق قائمة بأمر الله متبعة لما يحبه الله، حذرت من مساخطه، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، سلاحها الصبر على ما يصيبها بل إنها ينالها من الشدة والضيق ما لا ينال غيرها بل تتعرض للخذلان والمخالفة؛ ففي المسند عن أبي أمامة ] قال : قال رسول الله  : >لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأوى حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، قالوا : يا رسول الله أين هم؟ قال : ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس<، بل إنهم قلة في وسط الغثاء والزبد من الأعداء والخصوم والمخالفين والمخذلين، جاء في حديث مرة البهزي ] قال : قال رسول الله  : >لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، ظاهرين على من ناوأهم وهم كالإناء بين الأكلة حتى يأتي أمر الله وهم كذلك<(أخرجه الطبراني في الكبير وهو صحيح بشواهده).

أهل الحق يناوؤهم كثير ويعاديهم أكثر من اليهود ومن شايعهم وأهل الشهوات والأهواء والزيغ وأبناء الدنيا، يجسّد ذلك قول الله عز وجل : {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا} وقوله تعالى : {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم}، وفي قوله تعالى : {ولا يزالون يقاتلونكم} تنبيه عظيم وبيان صريح في استمرار الكفار ودأبهم في محاولات صد أهل الإسلام عن دينهم بالمخططات والمشاريع والمكائد والمواجهة مما يستدعي أهل الإيمان الذين يصدقون بالقرآن ويصدقون بالإسلام ويصدقون بأخبار محمد  أن يقاتلوا التخطيط بتخطيط مثله، ويكونوا على يقظة من ألوان المشاريع التي تطرح.

ومن اليقينيات القرآنية قول الله عز وجل : {لن يضروكم إلا أذى} وقوله سبحانه : {لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا، وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور}.

إن الأعداء لن ينجحوا في إيقاع الضرر المحدق ولكن يصيب المسلمين أذى ظاهر لا ينفذ إلى الأعماق {لن يضروكم إلا أذى} ألم في الأجسام والأبدان والأطراف والحواس، أما ثقة المسلمين بربهم وغيرتهم على دينهم وحبهم لربهم وكتابه ونبيه والتصديق بوعد الله فلن يتزعزع عند أهل الإيمان.

نعم أيها المسلمون أهل الإيمان يكثرون ويقظون بإيمانهم وثقتهم بربهم وصدق إىمانهم وابتغاء وجه ربهم أما غيرهم فيغترون بالميزان المادي والكثرة العددية، يقول خالد بن الوليد ] : >أرى والله إن كنا إنما نقاتل بالكثرة والقوة هم أكثر منا وأقوى علينا وما لنا بهم إذاً طاقة، وإن كنا نقاتلهم بالله ولله فماجماعتهم ولو كانوا أنفاراً تغني عنهم شيئا<، ويقول ] : >إنما يكثر الناس بالصبر ويقلون بالخذلان<، ولقد قال الحق سبحانه وتعالى : {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين}، وقال سبحانه : {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}، بل عاتب سبحانه أهل الإيمان لما استندوا إلى كثرتهم وأعجبوا بقوتهم فقال سبحانه : {ويوم حنين إن أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم من شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين}، ولقد قال بعض السلف (لا تغتر بطريق الباطل وإن كثر فيه الهالكون ولا تستوحش من طريق الحق ولو قل فيه السالكون).

أيها المسلمون

إن خصومنا وأعداءنا متعلقون بدينهم يتستّرون بشعار العلمانية، أما بعض بني قومنا فعلمانيون يحملون أسماء إسلامية، يا قومنا إن المعركة معركة دين، وخصومنا يرتكزون إلى مبادئ عندهم دينية ومعتقدات توراتية، فهم يعتقدون أنهم شعب الله المختار، ويعلنون انتسابهم إلى اسرائيل، سمّوا بذلك أنفسهم وسمّوا بها دولتهم، أما الأرض فيزعمون أنهم موعودون بها في كتبهم المقدسة فهي عندهم أرض الميعاد. يقول زعيم من زعمائهم (إن عودتنا إلى فلسطين يجب أن تسبقها عودة إلى اليهودية) ويقول آخر : (إن كل يهودي يجب أن يهاجر إلى إسرائيل وإن كل يهودي أقام خارج إسرائيل منذ إنشائها يعتبر مخالفاً لتعاليم التوراة وإن هذا اليهودي يكفر كل يوم بالتوراة).

يا أمة محمد، في مقابل استمساكهم بباطلهم فقد جدّوا في عزل الإسلام عن ساحة المعركة وأعلنوا أنه لا يقف في طريقهم إلا الإسلام وراياته، يقول قائل منهم : (لا يمكن أن يتحقق ا لسلام في المنطقة ما دام الإسلام شاهرا سيفه ولن نطمئن على مستقبلنا حتى يغمد الإسلام سيفه إلى الأبد)، ويقول آخر : (نحن لا نخشى خطرا في المنطقة سوى الإسلام) لقد بث العدو شعارات ملأت الساحة العربية مدركا أنها هواء ليس من ورائها إلا مصالح ضيقة ومكاسب شخصية ونعرات حزبية يسهل ترويضها، إن الخصوم لا يقر لهم قرار حين يرتفع نداء الله أكبر والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين.

وبعد أيها المسلمون :فإن سر القوة كامن في ضمير الأمة وكيانها، كامن في قوة إيمانها وصحة معتقدها، وإن غشاه صدأ أو علاه غبار فما أسرع ما ينجلي الصدأ وينفض الغبار إذا وجدت الأمة من يخاطبها باسم الله ويقودها بالإيمان بالله فيستنفر كوامنها وطاقاتها ويستعيد الدين موقفه ويسترد الإيمان جذوته، فإذا الشتات يتجمع والركب يتحرك والريح تتغير، والأمة قد جربت غزوات فابتلعتها وهجمات فصدتها ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا.{يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم}.

üüüü

الحمد لله رب الأرباب، ومسبب الأسباب يجتبي إليه من يشاء ويأوي إليه من أناب.

أما بعد أيها المسلمون :

إن المطلوب النظر في ثوابت التاريخ وحقائق الغيب والرجوع إلى كتاب الله وصحيح سنة رسول الله  واستنطاقها والسير على منهاجهما في طريق الجهاد الطويل القائد إلى النصر بإذن الله لترتفع راية الدين ويستعاد الحق وتحرر الأرض.

…ألا فاتقوا الله رحمكم الله ثم صلوا وسلموا على نبي الرحمة والملحمة نبيكم محمد  فقد أمركم بذلك ربكم في محكم تنزيله فقال : {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى أزواجه أمهات المؤمنين..

اللهم انصر إخواننا في فلسطين، اللهم أمدهم بقوة من عندك وجند من جندك، اللهم ارحم ضعفهم واجبر كسرهم وقوِّ عزائمهم ووحد صفوفهم واجمع على الحق كلمتهم وسدد سهامهم وآراءهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم وجياع فأطعمهم، وعراة فاكسهم وضعاف فقوهم، اللهم واجعل الدائرة على أعدائهم اليهود الغاصبين المفسدين ومن شايعهم، اللهم فرق جمعهم وشتت شملهم واجعل بأسهم بينهم شديدا وخالف بين قلوبهم وأنزل بهم بأسك ، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين وفي كشمير وفي الشيشان يا قوي يا عزيز..

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>