تعرض د. محمد التاويل في العدد الماضي إلى اختلاف حكم عمل المرأة في مال زوجها باختلاف طبيعته وآثاره الناتجة عنه، كما تعرض إلى موضوع فتوى ابن عرضون بعدما وثقها ثم تحدث عن مستند ابن عرضون وسلفه في فتواه، وفي هذا العدد، يتحدث د. محمد التاويل عن مبررات الفتوى ويناقشها.
رغم شذوذ هذه الفتوى وخروجها عن مبادئ الفقه وقواعده العامة ومخالفتها لأصول الشريعة كما قال العلامة عبد القادر الفاسي وغيره، فقد حاول البعض تأييدها والرد على منتقديها والاجابة عما وجهوه إليها من نقد واعتراض، وسلكوا في ذلك مسالك شتى ولم يتورع بعض المؤلفين من مهاجمة المنتقدين واتهام كبار الفقهاء بالجمود والتعصب وتوجيه نداء الى فقهاء القانون وعلماء الاجتماع ليعيروها ما تستحقه من الاهتمام..
إلا أن كل ما جاؤوا به وما سلكوه من المسالك وما أثاروه من الشبه وما أطلقوه من الاستنجاد بالأجنبيي لدحض الحق الثابت وتثبيت العرف الفاسد كل ذلك لا يفيد كما يتبين من مناقشة تلك المسالك والشبه والنداءات :
< التبرير الأول : أو الشبهة الأولى : القياس على الخَمَّاس، وهو قياس احتج به المهدي الوزاني في رده على عبد القادر الفاسي حيث يقول الوزاني في المعيار الجديد 522/7 : والحاصل أنه كما ثبتت الشركة في الزرع للخماس بمجرد عمله كذلك تثبت لغيره ممن له مباشرة الزرع بجزء منه على قدر علمه.
وهو قياس فاسد لا يصح الاستدلال به لوجوه :
1) لأن الخماس لم تثبت له الشركة بمجرد عمله كما قال، بل باتفاق سابق مع رب الأرض والعمل بعد ذلك، كما يقول البرزلي، أثناء جواب له : فالحكم في ذلك أنه لا يحسب الخمس للعامل -الخماس- إلا بالدخول عليه تصريحا عند العقد. وأما مع السكوت فإنما يقضي له بنصف أجرة العمل (المعيار الجديد : 496/6).
فالاتفاق قبل العقد هو أساس اشتراك الخماس، وهذا الاتفاق مفقود في مسألة الزوجة فهو قياس مع وجود الفارق وهو لا يصح.
2) أن الخماس أجنبي عن رب الأرض وعمله محمول على عدم التطوع على الراجح، بخلاف الزوجة، فإن العادة جارية بعملها في مال زوجها ولا تطلب على ذلك أجرا ولا تهدف من وراء مشاركة زوجها في العمل إلا مساعدة زوجها. وهو فرق آخر بينها وبين الخماس. يمنع من صحة قياسها عليه، ولا ترضى هي بهذا القياس وقد تعتبره إهانة لها وشدخا في علاقتها بزوجها..
3) أن مسألة الخماس مختلَفٌ فيها والمشهور فسادها ويعطى أجرة المثل. والقائلون بجوازها واعتباره شريكا بنوه على الضرورة كما قال صاحب العمل الفاسي :
وأجرة الخمَّاسِ أمْرٌ مُشْكِلٌ
وللضرورة بها تساهل
فالقياس عليه لا يصح لانتفاء الضرورة في مسألة الزوجة فهو قياس مع وجود الفارق كما أنه قياس على الرخص وعلى مختلف فيه وكل ذلك لا يجوز.
4) أنه قياس في محل النص لأنه مخالف لحديث الخراج بالضمان، فإنه يدل بعمومه أن الزرع للزوج لأن الأرض أرضه والبذر بذره فهما من ضمانه والخراج بالضمان.
كما أنه مخالف للمعروف المنصوص عليه في الفقه المالكي من منع المزارعة بالعمل وحده من أحد الشريكين وفسادها واعطاء العامل أجرة المثل. والمرأة في موضوعنا ليس لها إلا مجرد العمل فلا يصح أن تكون شريكة به لانتفاء شروط المزارعة وهو ادعاء غير صحيح، وشائعة ما كان ينبغي سماعها ولم يذكرها أحد من الفقهاء الذين تناولوا الموضوع، ولو كانوا رجعوا أو رجع أحد منهم لنبهوا عليه ولما أغفلوه. كما أن الفقه لا يتأثر بمثل تلك المشاهد. وليس ذلك المنظر بأصعب وأشد من أسماء بنت أبي بكر الصديق وهي تحمل على رأسها النوى تنقله على عدة أميال من بيتها ولم يجعلها شريكة لزوجها فيما نتج عن كسبها.
< المبرر الثاني : أو الشبهة الثانية هي القياس على مسألة الابن مع أبيه والأخ مع أخيه، وهو قياس آخر احتج به الوزاني أيضا في رده على الفاسي حيث يقول في اثناء رده : قد علمت أنه ليس هنا صريح عقد وإنما هي شركة حكمية كما قالوا فيمن كان مع أبيه أو أخيه أو عمه على مائدة واحدة أن ذلك يوجب لهم شركة المفاوضة(المعيار الجديد : 562/7) وهو قياس يتضمن قياسين : الأول القياس على مسألة الابن مع ابيه، والثاني القياس على مسألة الأخ مع أخيه، وكلاهما قياس فاسد لا يصح الاحتجاج به.
القياس على مسألة الابن مع أبيه لا يصح لوجوه
1) أن مسألة الابن الذي يعمل في مال أبيه مختلف فيها، والراجح أنه لا شيء للابن فيما نتج عن عمله من غلل وأصول وما شية إلا أن يكون بينهما اتفاق على الشركة قبل العمل. كما أفتى بذلك المحققون. بل قيل لبعض الفقهاء : إن قضاة البادية يحكمون بمشاركة الولد لأبيه في هذا فقال : لا أعرفه لأحد من الفقهاء(المعيار الجديد 548/6) وهو جدير بأن لا يقوله أحد من الفقهاء لمخالفته حديث الخراج بالضمان.
فالقياس يقتضي أن تكون الزوجة شريكة بمجرد عملها كما لا يكون الولد شريكا لمجرد عمله من باب أولى وأحرى، لأن الابن لا يقول أحد بوجوب الخدمة عليه في مال أبيه، أما الزوجة فهناك من يرى وجوب الخدمة الظاهرة عليها وإن كان رأيا مرجوحا لا نقول به ولا نؤيده، ولكن نورده لنبين أنه إذا كان من لا تجب عليه الخدمة اتفاقا لا يعد شريكا بعمله فإن من اختلف في وجوب الخدمة عليه لا يكون شريكا بمجرد عمله بالأحرى.
وهكذا يتبين أن القياس حجة على ابن عرضون ومن معه لا له كما أراده الوزاني، وقد استدل بعض الفقهاء بقياس الزوجة على الابن في عدم تشريكها بمجرد العمل(المعيار الجديد 539/3) وهو عكس ما فعل الوزاني.
2) أن ابن عرضون لا يقول باعتبار الابن شريكا بمجرد عمله في مال أبيه ولم يعطه أجرا مقابل عمله، فقد حكم في ولدين مع أبيهما بنيا دارا وغرسا جنانا فباعها الأب، فحكم له ابن عرضون بجميع الثمن (المعيار الجديد 547/6).
وهكذا يتبين فساد الاستدلال بالقياس على مسألة الابن لأن ابن عرضون لا يقول بتشريكه فكيف يستدل له بما لا يقوله، ومن فاسد الاستدلال عند الأصوليين أن يحتج المستدل بما لا يقول به أو يقيس على غير أصله، لأن من شروط القياس الاتفاق على حكم الأصل بين الخصمين. فإذا كان القائس لا يقول بحكم الأصل فيكف يصح له القياس عليه لأنه نبت ضد ما يقول.
3) أنه مخالف للنص السابق (الخراج بالضمان).
القياس على الأخ مع أخيه وابن الاخ مع عمه
هو أيضا قياس فاسد لوجود الفارق، فإن مسألة الأخوين وابن الأخ مع عمه المال فيها مشترك بين الذين يعيشون على مائدة واحدة، هكذا فرضها الفقهاء في الأب يموت ويترك ابناءه على مائدة واحدة. يعملون جميعا فيما تركه لهم أبوهم من ميراث أو يموت أحد الأخوين ويترك ابنه مع أخيه على مائدة واحدة ففي مثل هذهالحالات أفتى من أفتى من الفقهاء باعتبار الورثة شركاء فيما تجدد عن أموالهم ولا يستبد أحد منهم بما كتبه لنفسه، وهي فتاوى موافقة مع حديث الخراج بالضمان وقاعدة الغُنْم بالغرم والاجماع على أن غلة المشترك توزع بنسبة الاشتراك.
وهذا بخلاف مسألة الزوجة مع زوجها فإن المال أصله للزوج وحده فلا يصح قياس الزوجة على مسألة الأخوين أو الاخوة لوجود الفارق بينهما، ومخالفته النص والاتفاق السابقين. ولهذا إذا كان المال كله لاحد الأخوين وللآخر العمل فقط لم يكن للعامل شركة في مال أخيه ولهذا قال التسولي رحمه الله في شرح التحفة 196/2 : >وأما إذا كان أصل المال الذي بين أيديهم مملوكاً لأحدهم فقط ولكنه نما بخدمتهم وقيامهم عليه، فإن النماء لمالك الأصل وعليه أجرة المثل لمن عداه. وسئل القوري عن أخ له مال قال لأخ لا مال له : “تعال أشاركك فيما بيدي من المال ونتعاون على أمورالدنيا فأقاما علىذلك مدة فبدا لصاحب المال فيما قال لأخيه، ما الواجب في ذلك؟
فأجاب : ليس للأخ العامل إلا أجرة مثله فيما أعانه فيه(المعيار الجديد 511/6) وهي فتوى في محلها لأن شركة المال والمفاوضة بالخصوص من شروطها مساهمة كل شريك بحصة من ماله في رأس مال الشركة، والأخ لم يشارك عليه بشيء، فكيف يكون شريكا؟ وإذا كان هذا الأخ لم يعتبر شريكا مع تصريح الأخ بعرض الشركة وقبوله لها بعمله، فكيف يصح اعتبار الزوجة شريكا لمجرد العمل دون تصريح من الزوج بتشريكها؟
وهكذا أيضا يتبين فساد القياس على مسألة الإخوة لأنه قياس مع وجود الفارق وفي محل النص.
< التبرير الثالث : القياس على مسألة الغزل والنسيج، وهو قياس آخر استدل به الوزاني في رده على الرهوني، حيث يقول : ..بدليل ما قالوه في الزوج يأتي بالصوف إلى زوجته فتغزله وتنسجه، إنها تكون شريكة معه بقدر عملها (المعيار الجديد 564/7) وهو استدلال ضعيف وقياس لا يصح لوجود الفارق :
1) لأن زيادة قيمة الصوف بالغزل أو النسج لا تعتبر غلة للصوف، فلا يشملها حديث الخراج بالضمان بخلاف الزرع فإنه غلة الأرض يشمله حديث الخراج بالضمان، وهذا هو السر الذي تفطن له المحققون في فتاواهم حين جعلوها شريكة في الغزل والنسيج دون الزرع، وغاب هذا السر عن ابن عرضون ومن تبعه فسووا بينهما، ويدل لهذه التفرقة تفريق الفقهاء في باب القصب بين غلة المقصوب وبين زيادة قيمته بتصنيعه.
2) أن الشركة في الصوف بغزله جائزة إذا دخلا عليها بخلاف الشركة في المزارعة بمجرد العمل فإنها لا تجوز وهو فرق آخر بين المسألتين يمنع صحة القياس.
كما أن مسألة الغزل مشروطة بشروط :
> ألا تصرح بعملها للزوج.
> أن لا يجري العرف بتطوع الزوجة وعدم مطالبتها بالأجر.
> أن لا يطول الزمان على وقت الغزل والنسج.
> أن تحلف أنها عملت ذلك بقصد مشاركة الزوج أو أخذ الأجرة.
وهي شروط منتفية في عمل الزوجة في الزرع والثمار..