الدين النصيحة.. قراءة في المفهوم


كثيراً ما نردد أنه ينبغي علينا أن ننطلق من مواقفنا ومناهجنا من الكتاب والسنة، مستعينين على فهمها بأقوال وكلمات وحِكم سلفنا الصالح، ولكن عند التطبيق لا ننفّذ ذلك بعناية وبدقة متناهية.

وقد تأملتُ في حديث تميم بن أوس الدّاري ] الذي يقول فيه : إن النبي  قال : >الدّين النصيحة< ثلاثا قال : قلنا : لِمن يا رسول الله؟ قال : >لله عز وجل، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم<. وفي حديث جرير بن عبد الله ] يقول فيه : (بايعتُ رسول الله  على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنّصح لكل مسلم)..

ثم نظرتُ إلى كلام علماء السّلف في معنى النّصيحة لعامة المسلمين فوجدتُ فيه منهج التعامل المنشود مع الكتاب والسنة.

فوجدتُ أن مسلك النّصيحة لعامة المسلمين كما فسّره سلفنا الصالح من علماء الأمة، يختلفُ عن المسالك التي ننهجُها نحن اليوم في مفهومنا لمعنى النصيحة العلمي؛ فمسلك العلماء يُقدم منهجاً متكاملاً ناجعاً في ممارسة معنى النصيحة في الواقع.

فالنّصيحة أولاً ليست مرادفة لإنكار المنكر، وإن كانت لا تتعارض معه، وإنما إنكار المنكر وتقويم خطأ المخطئ ركن من أركانها.

والنصيحة ليست مرادفة لمسلك إضمار الخير للمسلمين والشفقة عليهم فحسب، وإنما الشفقة على المسلمين ركن من أركان النصيحة لهم، والنصيحة للمسلمين ليست مرادفة لمسلك إرشادهم إلى مصالح دنياهم وقضائها لهم، وإنما إرشاد المسلمين لمصالح دنياهم وقضائها لهم ركن من أركان النّصيحة.

فالنصيحة للمسلمين إذن، كما بين معناها سلفنا رضي الله عنهم تجمع ثلاثة أمور :

1) تقويم المخطئين.

2) والشفقة عليهم.

3) وقضاء حوائجهم.

وباجتماع هذه الأمور والأركان في النصيحة تزول السلبيات المختلفة المصاحبة للتطبيق، فمع وجود الشفقة على المسلمين وقضاء حوائجهم ومصالحهم لا يصبح الإنكار على خطئهم سبب فتنة وانقباض لهم، ومع تقويم أخطائهم وتعليم جهلائهم لا يغدو قضاؤك لمصالحهم عملاً سياسياً بحتاً مثلا، ومع تقويم خطئهم وقضاء مصالحهم لا يصيرُ إضمارك للخير لهم والشفقة عليهم شيئا سلبياً لا قيمة له مِن الناحية العملية..

وسأذكر كلام أهل العلم السالفين في معنى النصيحة حتى يٌعْلم أن مُشكلتنا أننا لا نأخذ جميع ما أمرنا الله تعالى به، وأن القوم متى نسُوا شيئا ممّا ذكرهم الله به اختلفوا واضطربوا {فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء}.

لقد قالوا في النصيحة : “إنها كلمة جامعة تتضمن قيام الناصح للمنصوح له بوجوه الخير إرادة وعملاً”. وهذا ما قاله أبو عمرو بن الصلاح.

وقال محمد بن نصر رحمه الله : قال بعض أهل العلم : جماع تفسير النصيحة هي عناية القلب للمنصوح له كائنا من كان”.

وقال الخطابي رحمه الله تعالى : “النصيحة كلمة يُعبر بها عن جُملة وهي، إرادة الخير للمنصوح له”، وأصل النّصح في اللغة، الخلوص، يُقال : نصحتُ العمل إذا خلصته. وهذا كلامهم في معنى النّصيحة العامة كما ذكره ابن رجب الحنبلي..

وأما كلامهم في معنى النّصيحة للمسلمين، فيقول ابن رجب : “ومن أنواع نصحهم دفع الأذى والمكروه عنهم، وإيثار فقيرهم وتعليم جاهلهم، وردّ من زاغ فيهم عن الحق.

وقال أبو بكر المزبي : “ما فاق أبو بكر ] عن أصحاب محمد  بصوم ولا صلاة، ولكن بشيء كان في قلبه”، قال ابن علَيّة : “الذي كان في قلبه الحب لله عز وجل والنصيحة لخلقه”.

وقال معمر : “كان يُقال : أنصح الناس لك من خاف الله فيك”.

وقال الحسن : “قال بعض أصحاب النبي  : والذي نفسي بيده إن شئتم أقسمت لكم بالله : إن أحبّ عباد الله إلى الله عز وجل الذين يُحبّبُون الله إلى عباده، ويحبِّبُون عباد الله إلى الله، ويسْعون في الأرض بالنّصيحة”.

وقد كان رسل الله جميعاً ناصحين لأقوامهم باذلين ما بوسعهم لنفعهم وهدايتهم، ولذا قال نوح عليه السلام لقومه : {وأنصحُ لكُم}.

وقال هود عليه السلام لقومه : {وأنا لكم ناصح أمين}.

وقال صالح عليه السلام : >ونصحتُ لكم ولكن لا تُحبون الناصحين}.

وقال شعيب لقومه بعدما هلكوا : {لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين}.

والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>