مفهوم العبودية : العبودية مصْدَرُ عبد الإنسان الله عز وجل عبادةً وعبودية بمعنى : انقاد لله تعالى وخضع تمام الخضوع لما طلبَهُ منه على سبيل الفعل أو الترك، وهذه هي العبودية الحقّ، حيثُ تقدّم لمن يَسْتَحِقها وهو الله تعالى الذي خلق الإنسان وأوجده من العدم، ثم أمدّه بكلِّ ما يحتاج إليه من النّعم.
والذي يُظهر العبودية والاستِسْلام والتذلُّل يُسمّى “عَبْداً” فإذا كان يُقدم العبادة والطاعة لله تعالى سمي “عَبْد الله” وإذا قدمها لغيره أُضيف لمعبُوده، فيقال فيه “عبد الدّنيا” “عبد الهوى” “عبد الشهوة” “عبد الكرسي” “عبد الدرهم” الخ.. إلا أنّ الذي يعبُد شيئا غير الله تعالى فهو عبد لذلك الشيء بالاختيار ولكنه عبد لله تعالى بالاضطرار، لأن الله عز وجل هو الذي أوجده، وهو الذي يتحكّم في مقومات حياته، من غذاء وكساء، وماء، وصحة، وشفاء، ونمو، ونوم، وإيقاظ، ولون، وطول، وقصر…
وعلى هذا فالعَبْد -كما يقول الراغب الاصفهاني- يأتي على أربعة أنواع :
الأول : عبْدٌ بحكم الشرع وهو الإنسان الذي يصِحُّ بيعه وشراؤه -كما كان الشأن قبل صدور إعلان التحرير للإنسان- {كُتِب عليكم القصاص في القتلى الحُرّ بالحرّ والعبْد بالعبْد..}(سورة البقرة).
الثاني : عبد بالإيجاد، وذلك ليس إلا لله، وهو المقصود بقوله تعالى {إن كُلُّ من في السّماواتِ والأرْض إلا آت الرّحمان عبداً}(سورة مريم).
الثالث : عبدٌ بالعبادة والخدمة والناس في هذا ضَرْبان :
عبدٌ لله مُخلصا، وهو المقصود بقوله تعالى {نزّل الفُرقان على عَبْدِه}(سورة الفرقان) {سُبْحان الذي أسْرى بعَبْده}(سورة الإسراء).
وعبد للدنيا وأعراضها، وهو المعتكف على خدمتها ومراعاتها، وإياه قصد النبي بقوله : >تَعِسَ عَبْد الدِّرهم، تعسَ عبْد الدّينَار< انظر معجم مفردات ألفاظ القرآن ص 330، 331.
أشرف العبوديات على الإطلاق
أشرفُ إضافة وأكرمها أن يُعْلن الإنسان انتماءَه وانتسابه لربّهِ بصفة “العبديّة” فيقال فيه “عبد الله” “عبد الرحمان” “عبد القيوم” إلى غير ذلك من الأسماء أو الإضافات لأسماء الله تعالى وصفاته، لأن ذلك هو الوضع الطبيعي الذي ينبغي أن يكون عليه الإنسان السليم الفطرة، فهو عبد الله تعالى بالاضطرار، فينبغي أن يكون عبداً لله بالاختيار، وعلى هذا فقد يكون الإنسان مملوكاً لبعض الناس ولكنه عبْد لله بالعبادة والإخلاص، كما كان بلالٌ ]، الذي كان عبداً لله رغم أنه كان مملوكا لأمية بن خلف قبل أن يتحرر، وقد يكون الإنسان غير مملوك لأحد من الناس ولكنه عبْد لحزب أو طائفة أو هَوى، وهذه الأخيرة أخس العبوديات وأرذلها لأنها تزري بكرامة الإنسان، بينما العبودية لله تعالى تعني الالتجاء إلى الحِصْن الحصين الذي فيه الكرامة والأمن والعزة والاطمئنان والفلاح.
تجليات العبودية للمعبود بحق
عندما يذكر الله عز وجل العبدَ الذي اختار العبودية لله سبحانه وحده، فإنه يميّزه بالإضافة التشريفية له سبحانه وتعالى، سواء كانت إضافة إلى اسم من أسمائه أو إضافة للضمير الدال عليه، ثم يتبعه بأفعال العبد المشكورة أو بالنّعم الربّانية التي أغدقها الله تعالى على ذلك العبد أو أولئك العباد، وفي بعض الأحيان يشير الله تعالى إلى تلك النعم قبل ذكر العبد المقصود، أو يميّزه بصفة من الصفات التي تجعله في حظيرة العبودية الربّانية.
فمن النوع الأول قوله تعالى : {قال -أي عيسى عليه السلام- إنِّي عبدُ اللّه آتانِي الكِتاب}(مريم : 30)، {إنْ كُنْتُم آمنْتُم باللّهِ وما أنزلْنا على عَبْدِنا يوم الفرقان}(الأنفال : 41)، {الحَمدُ لله الذي أنْزلَ على عَبْده الكِتاب ولم يَجْعل له عِوجاً}(الكهف : 1).
ومن النوع الثاني قوله تعالى: {ولعَبْدٌ مومِن خيرٌ من مُشْرِكٍ ولوْ أعْجَبَكُم}(البقرة : 138)، {إنّ في ذلك لآيةً لكُلِّ عبد مُنيب}(سبأ : 9).
أما عندما يذكر الله عز وجل عباده بالاضطرار ولم يعبدوه بالاختيار، فإنه لا يشرفهم بالاضافة له أو الانتساب إليه أو إلى دينه انتسابا اختياريا، بل يذكرهم في صورة العموم : {واللّه رؤُوف بالعِباد}(آل عمران : 30) أو في صورة إظهار المصير الذي يجلب التأسف والتحسر {يا حَسْرةً على العِبادِ ما يَاتِيهِم من رسُولٍ إلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئون}(يس : 30) أو صورة المغرّر بهم : {وقال -الشيطان- لأتّخذَنّ من عبادِك نَصيباً مَفْرُوضاً ولأُضِلّنهم ولأمَنِّينّهم ولأمُرَنَّهم فليُبَتّكُنّ آذَان الأنعام ولآمرنّهم فلَيُغَيِّرُنّ خلق الله ومن يتّخِد الشّيطان ولياً من دِونِ اللّه فقَد خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً}(النساء : 118).
إلى غير ذلك من الصور التي لا يصعب تتبعها فيكتاب الله تعالى.
أما تجليات العبودية لله عز وجل فتأتي على أشكال مختلفة، منها :
< على شكل إبْراز عملٍ صالِحٍ أو أعمال صالحة مرضيٍّ عنها : مثل : {أرايْتَ الذِي يَنْهى عَبدا إذا صَلّى}(العلق : 10). فقد أبرز الصلاة لأنها أفضل أشكال العبودية. ومثل : {وعِبادُ الرّحمان الذِين يَمْشُونَ على الأرْضِ هَوْناً وإذاَ خَاطَبَهُم الجاهِلُون قالُوا سَلاماً…}(الفرقان : 63) فقد أبرز تواضعهم، وإشاعتهم السلام في كل معاملاتهم، وأبرز شدة استسلامهم لله تعالى في سجودهم وقيامهم، كما أبْرزَ توازنهم في الانتفاع بالدنيا {لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يُقتِرُوا} وأنهم لا يعتدون على الأنفس والأعراض الى غير ذلك من الصفات العملية المحمودة.
< على شكل إبراز صفة قلبية لا يطلع عليها إلا الله تعالى : فهي تمثّل شهادةً من الله تعالى لذلك العبد بالإخلاص أو الإيمان أو الصدق {إنّه مِن عِبادنا المومِنِين}(الصافات : 132).
< على شكل إخبار الله تعالى باصطفاء ذلك العبد المومن المخلص : {سُبْحَان اللّه عمّا يَصِفُون إلاّ عِبَادَ اللَّهِ المُخلَصِين}(الصافات : 160).
< على شكل تضرعات واستغاثات بالله تعالى : {والذين يقُولُون : ربّنا اصْرِف عنّا عذاب جَهَنَّم}(الفرقان : 65)، {ربّنا هبْ لنا من أزواجنا وذرّيّاتِنا قرّة أعين}(الفرقان : 74)، {واذْكُر عبْدنا أيُّوبَ إذْ نَادَى ربَّهُ أنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ}(ص : 41).
إلى غير ذلك من الأشكال والصّور التي يُبرزها الله تعالى لتكون نموذجا يُحْتذى من عباد الله الصالحين، سواء كانت تلك الأشكال والصور صفات للعباد المذكورين باسم “العبدية” أو بالأوصاف التي تبرز مضمون “العبدية” سواء ذكرت بالاسم، أم لم تُذْكر بالاسم، مثل : {التّائِبُون العابِدون الحَامِدون الرّاكِعون السّاجِدُون الآمِرُون بِالمَعْرُوف والنّاهُون عَنِ المُنْكر والحَافِظُون لحُدُودِ اللَّه وبَشِّرِ المُؤمِنِينَ}(التوبة : 113)، أو مثل : {واللّه بصِيرٌ بالعِباد الذِين يَقُولون ربّنا آمَنّا فاغْفِر لنا ذُنُوبَنا وقِنَا عَذَابَ النّارِ الصّابِرِين والصّادِقِين والقَانِتِين والمُنْفِقِين والمُسْتَغْفِرِين بالأَسْحار}(آل عمران : 17).
ثمرات العبودية لله تعالى
إن الثمرات التي يجنيها من اختار أن يكون عبداً خالصاً لله لا تعد ولا تحصى، وكيف تُعدّ وتحصى وهي كلها من نِعم الله تعالى التي لا تُحصى {وإنْ تَعُدُّوا نِعْمَة الله لا تُحْصُوها}(سورة ابراهيم)، إنما يكفي أن يشار إلى الثمرة الكبرى التي يمكن أن تُعتَبر أُمّ الثمرات التي عنها تتفرع باقي الثمرات، هذه الثمرة الكبرى هي أن يصبح العبد ولياً لله تعالى، ومن أصبح الله تعالى وليّه كفاه ما أهمَّه وما لم يهتم به من أمور الدنيا والآخرة {اللَّهُ ولِيّ الذِين آمَنُوا يُخْرجهم من الظّلماتِ إلى النور}(البقرة)، {ألا إنّ أوْلياء اللّه لا خَوْفٌ عليهم ولا هُم يحزنون}(سورة يونس)، ولقد جمع الله كبريات النعم في هذه الآية : {واذْكُروا إذْ أنْتُم قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُون في الأرْض تَخافون أنْ يتَخَطّفَكُم النّاس فآواكُم وأيّدَكُم بنَصْرِه ورزَقَكُم من الطّيّبَاتِ لعَلَّكُم تَشْكُرون}(الأنفال : 26) كما جمع هذا الحديث القدسيّ أعظمها، حيث يقول في الحديث القدسي : >إن الله عز وجل قال : من عادَى لِي وليّاً فقد آذنْتُه بالحرب، وما تقرَّب إلىّ عبْدي بشيْء أحبّ إليَّ مِمّا افْتَرضْتُه عليه، وما يَزَالُ عَبْدي يتقرّبُ إليّ بالنوافِل حتّى أُحِبَّه، فإذا أحْبَبْتُهُ كُنْتُ سمْعه الذي يَسْمعُ به، وبصرهُ الذي يُبْصِر به، ويَدَهُ التي يَبْطشُ بها، ورِجْله التي يَمْشي بها، وإن سأَلَنِي لأعْطِيَنَّهُ، ولَئِنْ استعاذَنِي لأُعِيذَنَّه، وما تردّدْت عن شَيء أنا فاعِلُه تردُّدِي عن نَفْسِ عبْدي المومن، يكْرَهُ الموتَ، وأنا أكْرَهُ مَسَاءَتَهُ<(رواه البخاري عن أبي هريرة).
وإلى جانب هذه الثمار العامة بدون تعيين الأشخاص الذين فازوا بها، فنجد في القرآن والسنة الكثير من الفائزين بها بأعيانهم وصفاتهم من ذلك مثلا قول الله تعالى في أيوب عليه السلام : {واذْكُر عَبْدنا أَيُّوب إذْ نَادَى رَبَّهُ إنّي مَسَّنِي الشّيطان بنُصْب وعَذَاب أُركُض برجلك هذا مُعْتَسَل باردٌ وشراب ووهَبْنا له أهْله ومِثلهم معهم رحمة منّا وذكرى لأُولي الألباب}(ص : 42). وقول الله تعالى في آسيا امرة فرعون : {وضَرَب اللَّه مثلاً للذِين آمَنوا امرأة فرعون إذ قَالَتْ رَبّ ابْنِ لي عِنْدَك بَيْتاً في الجَنَّة ونجِّني من فرعون وعمله ونجّنِي من القوم الظّالمين}(سورة التحريم) إلى غير ذلك من العباد الصالحين -سواء كانوا رجالا أو نساء- الذين عرفوا الله تعالى بالعبادة والإخلاصفعرفهم الله تعالى بالتأييد والنصر والسكينة والرضى عنهم كما رضوا عنه.
جعلنا الله تعالى من العباد الصالحين والخالصين المخلصين. آمين.