{اقرأ باسم ربك الذي خلق } القراءة باسم الله أساس المنطلق


القرآن أساس الهداية والرشاد : لا سبيل إلى الانفكاك عن حقيقة أهمية القرآن في حياة الانسان، ولو سعى المرء إلى ذلك ما سعى كما أنه لا سبيل إلى الانقطاع عن الرجوع إليه والعمل به وجعله السند الذي به تُنظم حياة الانسان؛ وليس تكاثر الأعمال المشتغلة بالقرآن الكريم، قراءة وفقها واستنباطا واعمالا، إلا دليلا قاطعا على الإحساس العميق بملازمته لنا، وضرورته لحياتنا وسلوكنا، بل وأهميته في رسم طريق الخلاص يوم لقاء الله عز وجل مصداقا لقوله تعالى : {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، ويبشر المومنين الذي يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً، وأن الذين لا يومنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما}(الاسراء : 9، 10).

فهو الرحمة والنور والهداية {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين، ولا يزيد الظالمين إلا خسارا}(الاسراء : 82)، {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}(الأنبياء : 106)، {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمومنين}(يونس : 57).

فما شهدت البشرية أحسن من القرآن دستوراً جامعاً وشاملا لحياة الانسان، كبيرها وصغيرها، وذلك لأنه من عند الله جلت قدرته. وقد عجزت الانسانية سابقا ولاحقا، عن الإتيان بمثله، فما استطاعت ولن تستطيع، وصدق جل جلاله حينما بيّن بكل قوة أنه معجزته الخالدة متحديا المنكرين والجاهلين : {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن ياتوا بمثل هذا القرآن لا ياتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً}(الاسراء : 88)، وهو بهذا يدعو الإنسان إلى اتباع المنهاج الذي اختاره له أول مرة، حتى يتغلب على مكائد الشيطان وحزبه : {قلنا اهبطوا منها جميعا، وإما ياتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}(البقرة : 37)، ومن ثم يتخلى عن اتباع أهواء الضالين والجاهلين بهدي الله، أولئك الداعين الى غير الله : {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له، إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب}(الحج : 71).

وعلى هذا الأساس بُعث بالاسلام رسالة خاتمة وجامعة لكل ما ينظم حياة الانسان ويبين أوجه العلاقة الموجودة بين هذا الأخير وخالقه من جهة أولى، وبينه وبين أخيه الانسان من جهة ثانية، وبينه وبين الكون المحيط به من جهة ثالثة، وبينه وبين الآخرة من جهة رابعة؛ علاقات تؤسس المفهوم الصحيح لآدميته وتكشف عن سر كرامته وشرفه، وتفتح البصيرة  على المدلول القويم لمفهوم التكليف الذي به يتميز الانسان ويرتقي في سلم العبودية لله عز وجل. و بناء عليه تتضح العلاقة الموجودة بين قوله تعالى : {لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم}(التين : 4) وقوله : {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهمفي البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}(الاسراء : 70)، وبين قوله جلت عزته {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون}(المؤمنون : 116)، وقوله {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}(الذاريات : 56).

فالقرآن كتاب هداية بمفهومها العام الذي يشمل كل جوانب الحياة الانسانية : {ما فرطنا في الكتاب من شيء}(الأنعام : 39)؛ وهو إلى جانب ذلك منهاج صريح لبناء حضارة الانسان المستخلف الذي فقه مدلول عمارة الأرض واستعمارها، كما بيّن ذلك الله جل جلاله في القرآن وفصلته السنة النبوية الشريفة قولا وفعلا وتقريراً. وهو بهذا مدعو إلى فهم هذا المعنى انطلاقا من القرآن، كتاب الرشاد والهدى، والتخلي عما سواه. ولا يمكن ادراك عمق هذا المدلول إلا بالانطلاق من القرآن ذاته، إدراكا يوضح أن منهاج القرآن متميز  وفريد من نوعه في باب صناعة الحياة القويمة للانسان. كماأنه لا يمكننا أن ندرك عمق هذا الفهم ما لم ننطلق مما ينبغي الانطلاق منه، وهو أول آية نزلت من العلي القدير على الرسول الكريم ، رابطة بذلك السماء بالأرض من جديد، ومجددة لرابطة الله بالانسان الذي عاش ويلات الجاهلية التي أخرجته من المسار الصحيح، فكانت سورة العلق أول قطرات الهدى تنزل على قلوب المؤمنين لتغسلها من الأوساخ والأهواء والضلال، وتبين بأسلوب تربوي فريد مدارج السالكين ومسار السائرين الى الله تعالى.

القراءة باسم الله :

ميزان الفهم القويم

إن الفهم العميق لخطاب الاسلام، والفقه الدقيق لمقاصده لا يتأتى بالشكل المطلوب إلا بالانطلاق من “اقرأ”؛ هذه الكلمة الأولى التي أنارت الطريق أمام الرسول  الذي تعلم سر القراءة المتكاملة والجديدة من ربه وخالقه، وهو النبي الأمي الذي لا يعرف القراءة، فكانت إيذانا بضرورة التوكل على الله والاستعانة به لانجاز هذا الفعل الذي سيبدل حياة البشرية برمتها، مادامت متمسكة بربها ولم تخرج عن شرعته.

من هنا الفهم العميق للمدلول العام لاقرأ الذي يفهم منه أن فعل الأمر هنا أمر إنشائي وتكويني وليس أمراً تكليفيا، ذلك أن التكليف لا يكون إلا بما يستطاع، فاقترن فعل القراءة بقدرة خارجة عن ذات الإنسان، وامكاناته الشخصية، وذلك ما يمنحنا إياه قوله جل جلاله {باسم ربك الذي خلق}؛ حيث يدل تعبير {باسم ربك} على ضرورة الاستعانة بالله والتوكل عليه والإيمان الراسخ بقدرته المطلقة على فعل أي شيء، فهو الموجد من جهة والممد من جهة أخرى، وهما صفتان من صفات الله تعالى التي بها تتجلى مظاهر ربوبيته للانسان؛ بل ويمكن القول في هذا المقام إن فعلي الايجاد والإمداد هما من أبرز صفات نعم الله تعالى على الانسان الذي خلقه وكرمه واستخلفه في ملكوت كونه وأمده بكل ما من شأنه تحقيق هذه الخلافة على الوجه الصحيح {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة}(النحل : 78)، فجعل السمع والبصر والفؤاد من أدوات التعلم والعلم، في مقابل الجهل الذي يولد الانسان عليه، وتلك نعمة من نعم الله جلت قدرته. كما بيّن له مصدر خلقه ومراحل تطوره من العدم الى الوجود الى الفناء، ليريه قدرته المطلقة المقترنة بنعمه التي لا تحصى {فلينظر الانسان مم خلق، خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب}(الطارق : 5، 7)؛ هذه النعمة التي تتجلى في الكثير من جوانب حياة الانسان، والتي ذكرها الله تعالى في قرآنه مذكرا بها مخلوقه حتى لا ينسى قدرة الله ولا يجهل نعمه عليه : {يا أيها الناس، اذكروا نعمة الله عليكم، هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض، لا إله إلا هو فأنى توفكون}(فاطر : 3).

فعل القراءة بين الايجاد

والامداد الرباني

وإذا كان المضمون العام لسورة العلق يدفع باتجاه التأكيد على ربوبية الله عز وجل للانسان منذ بدأ الخلق وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وتكون له الرجعى {إن إلى ربك الرجعى}(العلق : 8)؛ فإن البدء بفعل القراءة المقترنة باسم الله الأكرم دفع بالانسان إلى إدراك العلاقة الموجودة بين فعل الايجاد ونعم الامداد : الايجاد من العدم والإمداد بالنعم التي لا تحصى؛ وفي ذلك دليل على تفضيل الله تعالى لهذا المخلوق على كثير ممن خلق. ولعل في اقترانهما توضيح للقدرة الالهية التي اتجهت بالخلق من مرحلة العلقة إلى مرحلة الانسان، ومن مرحلة الحياة إلى مرحلة الموت، ثم من الموت إلى الحياة الأبدية؛ وهي دعوة صريحة لهذا الانسان لكي يقرأ كتاب التكوين، القائم على قدرة الايجاد ونعم الإمداد، من داخل هذه القدرة التي أفصح عنها قوله جل جلاله {باسم ربك}. فباسمه جل جلاله المقدس، وبوصفه الخالق والممد بالنعم، ينبغي أن يستعين الانسان على فعل قراءته بل وتصرفاته الباطنة والظاهرة؛ ليكون بفعله هذا مستجيبا لأمر الله الدال على فهمه لمعنى الربوبية المقترنة بالألوهية.

وعلى الجملة يمكن القول، هاهنا، إن مفهوم القراءة باسم الله تتطلب أمرين اثنين متكاملين :

1) طلب الاستعانة بالله تعالى، والحول والقوة من الله، وذلك تعبيراً عن حاجة الانسان، مهما بلغت درجة علمه وقدراته، الى الله الذي خلقه من ضعف وأمده بنعم لا تحصى {علم الانسان مالم يعلم}(العلق : 5).

2) وطلب الإذن من الله تعالى حتى يكون تصرفه في ملكوته بأمره، واستعماره لكونه بمشيئته التي ما تخلى الانسان عنها إلا ويصاب بآفات تزيغ به عن الطريق الصحيح، وتجره جراً باتجاه إنكار ربوبيته جلت عزته {كلا إن الانسان ليطغى أن رآه استغنى} (العلق : 6، 7). وعلى هذا الأساس، لاحق لأي انسان، كيفما كان نوعه وجنسه و رتبته في سلم الانسانية، أن يتصرف في مُلك الله بدون التقيد بميزان الله في هذا المجال، وهو إسم اللهالذي يعني الاعتراف الضمني بقدرة الله وعجز الانسان. كما أنه لاحق لأي انسان أن يحكم في أي شيء إلا باسم الله وإذنه، وإلا أضاع الطريق وتاه في دروب الأهواء {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله، أفلا يذّكرون}(الجاثية : 22).

البدء باسم الله في كل تصرف أساس جلب نعم الله

وعلى هذا المنوال شُرع البدء باسم الله في كل تصرفات الانسان، تربية من الله عز وجل وتذكرة للانسان بحقيقته وصلته بالله وحاجته الدائمة إليه في كل صغيرة وكبيرة. فتكون بذلك حياة المسلم المؤمن محفوفة بعون الله وقوته الجالبة لنعمه التي لا تحصى {فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين}(آل عمران : 159)، {ومن يتوكل على الله فهو حسبه}(الطلاق : 3). فقبل البدء بالأكل أو الشرب أو الدخول أو الخروج أو القيام أو القعود أو الذبح أو الكلام أو النوم أو غير ذلك مما له صلة بحياة الانسان وسلوكه اليومي، يتسلح المؤمن باسم الله تسلحا يقيه مخاطر الطريق وينجينه من مزالق الأهواء والضلال والجهل، ويذكره على الدوام بضرورة استحضار الخالق الموجد المنعم في كل صغيرة وكبيرة. وقد استطاع الانسان بفضل القراءة الصحيحة باسم الله سحق الباطل واحقاق الحق والتمكين لدولة العدل والاحسان والرحمة، واختصار الزمن في تأسيس كيان المجتمع النموذجي الذي يقوم على هدى من الله. وبخلاف ذلك، فإن من نتائج القراءة بغير اسم الله إفساد الكون وضياع الحقوق ومحاربة الحق وسيادة الأهواء وانتشار الضلال وخروج الانسان عن جادة الطريق  المؤدي إلى التمكين في الأرض الذي لا يمكن أن يتحقق إلا بتوافر عدة شروط أساسية لعل في مقدمتها الايمان الخالص والعمل الصالح : {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا}(النور : 53) ولا وجود لهذين الشرطين ما لم تصح مقدمة الصلة بالله جل جلاله، والتي أساسها الفهم العميق لمدلول الربوبية كما يدل عليه قوله تعالى {باسم ربك}.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>