إن الآيات المتعددة والأحاديث الكثيرة وغيرها مما لم يذكر وهو أكثر يعطي للقارئ صورة واضحة عن فلسفة الإسلام في اليسر والعسر ونظرته لهما وموقفه منهما وموقعهما في هذا الدين وشريعته فهو لايتحدث عنهما كحديثه عن الحلال والحرام في آية أو آيتين أوحديث أو حديثين، ولكنه يتحدث عنهما حديثه عن العقائد والتوحيد والرسالة والبعث في السور المكية والمدنية المرة تلو المرة لاعلان المبدأ فاليسر إرادة الله واختياره الذي اختاره لدينه وشريعته ولا مرد لارادته واختياره، ولهذا جاءت هذه الشريعة سهلة ميسرة على المستوى الإجمالي والتفصيلي.
على المستوى الاجمالي :
الشريعة الاسلامية محصورة في الأحكام الخمسة كما يعلم الجميع، وهي الوجوب والتحريم والندب والكراهة والاباحة، وهذه الثلاثة الأخيرة لا تكليف فيها ولا مجال فيها للمشقة والحرج ؛ وفي وسع كل أحد أن يتركها إذا شاء غير مؤاخذ على إهمالها أو التفريط فيها إذا استثنينا ما يفوّته على نفسه من ثوابها وآدابها، وهي بذلك نجد في طبيعتها ومفهومها معنى اليسر والتيسير بأوضح معانيهما، ولهذا عدها جماعة من الأصوليين من قسم الخير فيه..
ولهذا يقول الفقهاء، المكروه من قبيل الجائز، والجواز والتخيير مظهران من مظاهر اليسر والحرية الفردية التي لا تجامع العسر والتكليف. والحرام على الرغم من النهي عنه ومؤاخذة الانسان بفعله فإنه لا يتطلب من الانسان أي مجهود لتجنبه وتحقيق رغبة الشارع في تركه، ويكفيه فقط الامتناع من ممارسته والابتعاد عنه، وذلك في قدرة كل أحد وفي متناول الجميع، ولذلك لم يتساهل الشرع في وجوب الكف عنه فقال : إذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه، ولم يقل ما استطعتم كما قالها في الأمر لأن الاستطاعة هنا من باب تحصيل الحاصل.
وأما الواجبات فهي أعمال ايجابية مطلوب من المامور انجازهاوايجادها على أرض الواقع، ويحتاج الإنسان في تحقيقها إلى بذل مجهود باطني أو خارجي يقل ويكثر بحسب طبيعة الواجب، إلا أن الإسلام احتاط في فرضها وأحاط وجوبها بكثير من الشروط التي تخفف من أمرها، وتحد من عمومها وشمولها حتى يعفى منها كل من لا قبل له بها، وحتى تكون في متناول المامور بها ولا يخاطب بها إلا من يقوى على تحملها والاضطلاع بأعبائها، كما قال تعالى، {فاتقوا الله ما استطعتم}، وكما قال الرسول : >إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم< كما جعل كثيرا من الواجبات مفروضا على وجه الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقي. وجعل نوعا آخر من الواجبات واجبا على البدل أو الخيار توسعة لدائرة التخفيف واليسر مثل كفارة اليمين وجزاء الصيد وفدية محظورات الاحرام وكفارة الفطر في رمضان وأشياء أخرى كثيرة تفوق العد.
ثم عزز ذلك بشرع الرخص كلما دعت الحاجة إلى التخفيف من أعباء التكليف أوالحد من مسؤولية تحمل الواجبات، وحث المكلفين على الأخذ بهذه الرخص والتسهيلات كلما تحققت أسبابها، فقال عليه الصلاة والسلام : >إن الله يحب أن توتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه<، أو كما يكره أن توتى معصيته على اختلاف الروايات.
وتوسع في هذه الأسباب ونوعها لتكون الاستفادة منها أكثر والانتفاع بها أوسع وأشمل، وحتى تعم أصحاب الأعذار وذوي الحاجات على اختلاف أعذارهم، وحاجاتهم، خاصة الأعذار والحاجات التي يكثر وجودها ويتكرر وقوعها، وتجعل أصحابها غير قادرين على أداء واجباتهم والقيام بها على الوجه المطلوب، فكان من الحكمة النظر بعين الاعتبار إلى أوضاعهم وظروفهم، والتخفيف من أعبائهم والاكتفاء منهم بقدر طاقتهم، وبما يتناسب مع أحوالهم، ولو بصفة مؤقتة، ومن هنا جاءت التخفيفات الاسلامية متنوعة ليست على وثيرة واحدة وتراوحت بين اسقاط العبادة والاعفاء من أدائها وبين التغيير في هيئتها والنقص من مقدارها
وقد قسم عز الدين بن عبد السلام التخفيفات الشرعية الى ستة أقسام :
1) تخفيف الاسقاط كاسقاط الجمعات والصوم والحج والعمرة بأعذارها المعروفة.
2) تخفيف التنقيص مثل قصر الصلاة وانقاص بعض فرائض الصلاة عند العجز عنها.
3) تخفيف الابدال كابدال الوضوء والغسل بالتيمم، وابدال بعض واجبات الحج بالهدي والفدية، عند العذر.
4) تخفيف تقدم العبادة على وقتها كتقديم العصر إلى الظهر والعشاء إلى المغرب لسفر أو تقديم الزكاة والكفارة.
5) تخفيف التأخير كتأخير الصلاة في جمع التأخير ورمضان إلى ما بعده.
6) تخفيف الترخيص كأكل الميتة وشرب الخمر والتلفظ بالكفر عند قيام العذر.
وهي تخفيفات خاصة بأصحاب الأعذار وذوي الحاجات لا يشاركهم فيها من لا عذر له ولهذا يقول الأصوليون : الرخصة هي الحكم الشرعي المتغير من صعوبة لسهولة لعذر مع قيام السبب للحكم الأصلي، فلا رخصة إذن إلا بعذر مقبول شرعا.منها :
< المرض وهو من أكثر الأسباب وجودا وأكثرها رخصا في مجال العبادات والحدود والمعاملات من ذلك :
< رخصة التيمم من الحدثين الأصغر والأكبر عند الخوف من استعمال الماء كما جاء في قوله تعالى : {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحدكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا..}.
< رخصة المسح على الجرح والجبيرة الثابتة بحديث جابر في الذي أصابته شجة في رأسه فاستفتى أصحابه فأجابوه ألا رخصة له فاغتسل فمات فقال حين علم بذلك : >قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا إنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب على جرحه ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده<(رواه أبو داود).
< رخصة الجلوس والاضطجاع والايماء في صلاة الفريضة كما جاء في حديث عمران بن حصين أنه قال له : >صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنبك<(رواه الجماعة إلا مسلما وزاد النسائي فإن لم تستطع فمستلقيا( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها).
< رخصة التخلف عن الجمعة والجماعة والجهاد مع حصول فضل ذلك له كما جاء في حديث : >إذا سافر العبد أو مرض كتب الله له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا<، وقد مرض رسول الله مرض موته فأمر أبا بكر أن يؤم بالناس ولم يحضر هو الجماعة، كما أذن لعثمان بن عفان ] في التخلف عن غزوة بدر لتمريض زوجته بنت رسول الله .
< رخصة الفطر في رمضان الواردة في القرآن في قوله تعالى : {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} وذلك إذا خاف زيادة المرض أو تأخر الشفاء أو حدوث مرض آخر أو هلاكا أو شدة أذى.
< رخصة استعمال محظورات الاحرام في الحج من حلق شعر وتقليم واستعمال طيب وغير ذلك ما عدا الوطء وقتل الصيد أخذا بقوله تعالى : {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أوصدقة أو نسك}.
< رخصة الركوب في الطواف والسعي الثابتة بحديث أم سلمة أنها قدمت وهي مريضة فذكرت ذلك للنبي فقال : >طوفي من وراء الناس وأنت راكبة<(رواه الجماعة، والترمذي)، وروى ابن عباس أنه قدم مكة وهويشتكي فطاف على راحلته.. والسعي مثل الطواف.
< رخصة الاستنابة في رمي الجمار مع لزوم الهدي وزاد الشافعية الاستنابة في أداء الحج.
< الرخصة في تأخير طواف القدوم والسعي عن الوقوف بعرفة إذا لم يجد من يطوف به أو لم يتأت له ذلك ولا هدي عليه.
< رخصة تأخير الحد والتخفيف من شدته دون كمه، فقد بعث رسول الله عليا لاقامة الحد على أمة زنت فوجدها قد ولدت فلم يحدها خشية هلاكها من الحد فذكر ذلك للرسول فقال له : >أحسنت اتركها حتى تماثل<(رواه مسلم وأحمد والترمذي وصححه).
وزنى مريض بأمة على عهده فذكر له ذلك وذكر له شدة مرضه فقال : >خذوا له عثكلا فيه ما ئة شمراخ ثم اضربوه به ضربة واحدة<(رواه احمد وابن ماجة).
< تركالقسم بين الزوجات والإقامة عند من شاء منهن إذا شق عليه الطواف عليهن كما فعل الرسول حين اختار أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها.
< السفر : السفر قطعة من العذاب كما قال ، ولذلك قرنه القرآن بالمرض في كثير من الآيات وجعله سببا في التخفيف في جملة من الأحكام الشرعية بما يناسب حالة السفر من ذلك :
< نسخ قيام الليل في قوله تعالى :{علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤوا ما تيسر منه}.
< رخصة قصر الصلاة الرباعية الواردة في قوله تعالى : {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا}.
< رخصة الفطر في رمضان المشار إليها في قوله تعالى : {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر}، إذا كان السفر مباحا وبلغ أربعة برد ابتداء.
< رخصة التيمم عند عدم الماء كما جاء في آيتي النساء والمائدة : {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا..}.
< الجمع بين الصلاتين جمع تقديم أو جمع تأخير كما جاء في حديث أنس : >أنه كان إذا رحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل يجمع بينهما، فإذا زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب<(متفق عليه). وفي حديث معاذ ] أن النبي كان في غزورة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر يصليهما جميعا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم سار. وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب<(رواه أحمد وأبو داود والترمذي).
< رخصة التخلف عن الجمعة والجماعة كما جاء في حديث : >من كان يومن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة إلا امرأة أو مسافرا أو عبدا أو مريضا<(رواه الدارقطني والبيهقي).
< رخصة التنفل على ظهر الدابة للقبلة ولغيرها حيثما توجهت به دابته أو سيارته، وهي رخصة ثابتة بقوله تعالى : {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله}، وروى عامر بن ربيعة أنه قال : رأيت رسول الله وهو على راحلته يسبح يومئ برأسه قبل أي وجهة توجه، ولم يكن يصنع ذلك في الصلاة المكتوبة<(متفق عليه).
< السفر باحدى زوجتيه أو زوجاته دون الأخرى أو الأخريات باختياره كما يراه جماعة أو بالقرعة كما يراه آخرون وهو الذي كان يفعله الرسول >فقد كان إذا أراد أن يسافر أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها كما قالت عائشة رضي الله عنها.
وزاد النووي أكل الميتة والمسح على الخفين أكثر من يوم وليلة، وهي زيادة لا يوافق عليها.
أما المسح على الخفين فذهب المالكية أنه رخصة في الحضر والسفر من غير تحديد مدة لبسه، وإن كانوا يستحبون نزعه كل جمعة أو كل أسبوع خلافا للشافعية والحنفية الذين يقولون لا يمسح الحاضر أكثر من يوم وليلة.
وأما أكل الميتة فإن سبب الرخصة فيه هو الضرورة كما قال تعالى :{فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم}، ولهذا يأكلها المضطر في الحضر، كما يأكلها في السفر لعموم الآية، ولوجود سبب الإباحة وهو الضرورة.
ولهذا أيضا لا ياكلها غير المضطر لا في الحضر ولا في السفر كما يدل عليه مفهوم الآية، ولانتفاء علة الاباحة والحكم يدور مع العلة وجودا وعدما.
ولو كان السبب هو السفر لابيحت فيه للمضطر وغيره، ولحرمت على الحاضر المضطر وغيره.
الضرورة، وهو أوسع الأعذار رخصا يحل معها ترك الواجبات وارتكاب المحرمات، وقد تحدث القرآن عنها في عدة آيات من القرآن، فقال : في سورة البقرة 173 : {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه}، وفي سورة المائدة 3 : {فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم}. وفيسورة الأنعام الآية 145 : {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم}، وفي الآية 119 : {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه}. وفي سورة النحل الآية 115 : {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم}.
ومن هذه الآيات أخد الأصوليون القاعدة المشهورة ” الضرورات تبيح المحظورات”. وهي قاعدة مجمع عليها إلا أن أكثر الناس يخطئون في فهمها، ويسيئون استعمالها أو يتساهلون في تطبيقها حين يظنون أن الضرورة هي مطلق الحاجة إلى الشيء والرغبة في الحصول عليه وتملكه، لتحقيق غرض من أغراضهم، وبذلك يندفعون إلى المحرمات وهم يظنون أنهم في حالة ضرورة تبيح لهم ماهم مقدمون عليه من الحرام وهذا خطأ.
فان الضرورة التي تبيح المحظورات هي بلوغ الانسان حالة إذا لم يستعمل الحرام معها تعرض للهلاك أو قاربه.
وقد قسم العلماء الدوافع التي تدفع الانسان الى ارتكاب الحرام إلى خمسة :
1) الضرورة وهي بلوغه حدا إذا لم يتناول الحرام هلك أو قارب الهلاك وهذا يبيح تناول الحرام.
2) الحاجة وهي بلوغ الانسان حالة من الجوع يلحقه معها جهد ومشقة إلا أنه إذا لم يأكل الحرام لا يهلك ولا يقارب الهلاك، وهذه الحالة لا تبيح الحرام.
3) المنفعة وهي الاحتياج إلى تحقيق الشهوة وارضائها بأكل الطعام الشهي.
4) الزينة وهي الرغبة في تناول الكماليات من حلويات وملابس حريرية.
5) الفضول وهو الرغبة في التوسع في المحرمات.
ولا تباح المحظورات إلا لاصحاب الدرجة الأولى وهم أصحاب الضرورات دون من عداهم من أصحاب الحاجات والمنفعة والزينة والفضول.
خاتمة
إن مظاهر اليسر في الشريعة الاسلامية كثيرة جدا وأسبابها متعددة اكتفينا منها بهذه الاطلالة السريعة ونؤكد في الختام، أن الشريعة الاسلامية بما فيها من مبادئ وأفكار، وما تتميز به من سهولة ويسر وما تختص به من عدالة، وما حباها الله به من تسامح ورحابة صدر. وما تتمتع به من هيمنة ونفوذ على مشاعر المسلمين وأرواحهم قادرة على توحيد المسلمين وجمع كلمتهم وتحقيق السعادة لهم فرادى وجماعات حاضرا ومستقبلا كما حققت لهم ذلك حين آمنوا بها واحتكموا إليها وآثروها على مصالحهم وأهوائهم كما أنها ما تزال صالحة مؤهلة للقيادة والريادة.
وإنما يحتاج الأمر إلى تجديد الثقة فيها والعودة الى تطبيقها بصدق واخلاص بعد التجارب الفاشلة التي عاشتها الأمة الاسلامية وتعيشها في ظلمات بدائلها المختلفة المحلية والمستوردة شرقيها وغربيها التي لم تزدها الا فرقة وشتاتا وضعفا وهواناو لن ينقذها من هذا الضعف والهوان إلا التوبة مما هي فيه والعودة إلى شريعتها مصدر عزها وقوتها .
ولعله من الواجب على الدعاة والمفيد جدا في عصر يحاصر فيه الاسلام في الداخل والخارج شرقا وغربا، وتحاك فيه الدسائس والمكائد لشريعته سرا وعلنا، وتُوجَّه إليها مختلِف التهم بهدف تشويهصورة الإسلام، وتلطيخ سمعته، للحد من لمعانه واشراقه وصدِّ الناس عن الاعتصام به، والتعلق بشريعته، أن يقُوموا بواجِبِهم في التعريف بدينهم، وتوضيح مقاصد شريعتهم.