مظاهر اليسر في الشريعة الإسلامية (1)


الشريعة الإسلامية التي وحَّدَت بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها على اختلاف أجناسهم وحضاراتهم، قادت العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه عشرات القرون ومئات السنين لحكمتها البالغة، ومبادئها السمحة، وأوصَلتْه إلى قمم المجد والسيادة في رفق ولين ورحابة صدر ورزانة وحلم. وإذا كان من الصعب الحديث عن مزايا هذه الشريعة وخصائصها في مقال أو أكثر فإن ذلك لايمنع من إلْقاء نظرة خاطفة على بعض هذه المزايا التي كانت وراء انتشارها السريع، وخلودها الدائم، والسِّر في حب الناس لها والتفافهم حولها، واستعدادهم للدفاع عنها، والتضحية من أجلها في كل زمان ومكان، منذ ظهورها وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، مصداقا لحديث مسلم : >لنْ يَبْرَحَ هذا الدِّينُ قائماً تُقاتِل عليه عِصَابَةٌ من المُسلمين حتى تقُوم الساعة<

ومن أبرز هذه المزايا التي تستحق التنبيه عليها، والتذكير بها في هذا الظرف العصيب الذي يجتازه الإسلام والمسلمون، وتجتازه معهم الشريعة الإسلامية : لهو ميزة اليسر والسهولة التي اختارها الرسول  شعاراً لها في الحديث المشهور : >بُعِثْتُ بالحنيفيّة السَّمحة< هذه السهولة واليسر اللذان يسريان في الشريعة الإسلامية سرَيَان الروح في الجسد، والماءِ في أغصان الشجر والورد من الفها |إلى يائها على الصعيد النظري والعملي والاجمالي والتفصيلي. يستطيع كل المهتمين بها والدارسين لها أن يلمسوا ذلك بأنفسهم من خلال عشرات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تتحدث عن هذا اليسر وتقرره مبدأ من مبادئها العامة وقاعدة من قواعدها الأساسية وكلية من كلياتها الضرورية التي التزمت بها وحرصت على بلورتها في تشريع الأحكام، وفرضت التقيد بها على الدعاة والحكام وأوجبت احترامها على الخاص والعام في سلوك الجميع مع نفسه وفي عبادته لربه وفي تعامله مع غيره ودعت إليه من آمن بها ومن كفر.

اليسر من خلال القرآن الكريم

وهكذا نقرأ في سورة البقرة الآية 286 : {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، والآية 233 : {لا تكلف نفس إلا وسعها}، والآية 85 : {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}، والآية 286 : {ربنا ولا تحمل علينا اصرا كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحمِّلنا ما لا طَاقة لنا به}، والآية 178 : {ذلك تخفيف من ربكم ورحمة}، والآية 195 : {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}.

وفي سورة النساء الآية 28 : {يريد الله أن يخفف عنكم}، والآية : {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحميا}، والآية : {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق}.

وفي سورة المائدة الآية 6 : {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج}، والآية : {ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق}، والآية 87 : {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا}.

وفي سورة الأنعام الآية 52 : {لا تكلف نفسا إلا وسعها}، وفي سورة الأعراف الآية 42 : {لا تكلف نفسا إلا وسعها}، والآية 157 : {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يامرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم اصرهم والأغلال التي كانت عليهم}.

وفي سورة المومنون الآية 62 : {ولا نكلف نفسا إلا وسعها}.

وفي سورة الحج الآية 78 : {وما جعل عليكم في الدين من حرج}.

وفي سورة الطلاق الآية 7 : {لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها}.

كما جاء نفي الحرج عن أصحاب الأعذار في عدة آيات خاصة بهم ففي سورة التوبة الآية 91 نجد قوله تعالى : {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله}. وفي سورتي النور آية 61 والفتح آية 17 نقرأ قوله تعالى : {ليسعلى الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج}.

اليسر من خلال السنة النبوية

وفي السنة النبوية نجده  حريصا كل الحرص على تقرير هذا المبدأ وتأكيده، والأخذ به في سيرته وسلوكه، وفي معاشرته لأهله ومراقبة أصحابه ومحاسبتهم على تطبيقه والعمل على كبح جماح من تسول له نفسه انتهاكه أو تجاوزه مهما كان سبب هذا التجاوز ولو كان الدافع حب الله والتفاني في عبادته.

نجد ذلك في خطبه وأقواله عند الحديث عن ربه وعن نفسه وعن دينه وشريعنه وعند تحديد وظيفته ووظيفة أصحابه ومن خلال نصائحه وأجوبته،وفي وصاياه لأصحابه وفي إنكاره على الغلاة والمتنطعين من أتباعه.

كما نجده في اختباراته لنفسه وفي تركه أشياء خشية افتراضها على أمته، وفي تركه الأمر بها أحيانا خوف شقه على أمته : فقد أنكر على معاذ اطالة الصلاة بالناس وقال له : >أفتان أنت< وبلغه عن جماعة من أصحابه أنهم تعاهدوا أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلون اللحم ولا الودك، ولا يقربوا النساء والطيب ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويترهبوا ويجبوا مذاكرهم، فغضب من ذلك وقال : ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني”.

وأنكر على من نذر لله أن يحج ماشيا وقال له : “إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه،” وفي حديث آخر “إن الله لغني عن تعذيب اختك نفسها”، وأمرهما بالركوب.

وأراد أن يامر أصحابه بتأخير صلاة العشاء وبالسواك لكل صلاة لما فيها من الثواب العظيم ولكنه تركه خشية لحوق المشقة لهم وقال :” لولا أن أشق على أمتي لأخرت صلاة العشاء إلى ثلث الليل، ولأمرتهم بالسواك عند كل صلاة”، وقالت عائشة رضي الله عنها وهي تصفه :” ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن اثما”، وأبى ذات ليلة من الخروج للصحابة لصلاة التراويح بهم رغم تجمهرهمحول بابه طول الليل حتى أصبحوا كل ذلك خشية افتراضها عليهم فلا يطيقونها كما اعتذر إليهم بذلك عليه الصلاة والسلام.

هذا قليل من سيرته في نفسه ومع أصحابه فإذا عدنا إلى أقواله طالعتنا عشرات الأحاديث وهي تتحدث عن التيسير كقاعدة وصفة من صفات هذا الدين التي لا تقبل النسخ والتغيير  ، فقال : إن الله شرع هذا الدين فجعله سمحا واسعا ولم يجعله ضيقا >إن دين الله يسر<، >إنما أراد الله بهذه الأمة اليسر ولم يرد بهم العسر<، >إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق<، >إنما بعثت ميسرا ولم أبعث معسرا<، >هلك المتنطعون<.

وقال وهو يخاطب أصحابه >إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين<، قال لرسله إلى اليمن >يسروا ولا تعسروا< كما قال للجميع >خذوا من الأعمال ما تطيقون<، >إن الله رفيق يحب الرفق<.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>