فضاءات دعوية : موضع القدوة في الجيل الفريد


يرى كثير من الناس أن ما كان طبيعياً ومناسباً للجيل الأول في فترة التربية بمكة، لا ينطبق على وضعنا الحاضر، ومن ثم فعلينا أن ندرسه للتاريخ، وليس للعبرة ولا للقدوة!

وهذا الأمر يحتاج إلى تجلية واضحة، لأنه مفرق طريق في العمل الإسلامي في الوقت الحاضر، وما لم تتضح الصورة تماماً -وبموضوعية كاملة- فستظل تيارات العمل الإسلامي تتصادم مع بعضها البعض، ولا تصل إلى موقف موحد أو متجانس، بينما أعداء هذا الدين يقفون موقفاً موحداً، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، متكالبين كلهم على الأمة الإسلامية، يجاهدون للقضاء علىها، متعاونين متساندين، كما حدث في البوسنة والهرسك، وفي كشمير، وفي بلاد الشيشان، وفي كل مكان على ظهر الأرض.

هل نحن في المرحلة المكية، في مجتمع مشرك شركاً واضحاً لا لبس فيه، والمؤمنون هم أولئك القلة التي آمنت بالدين الجديد، مستضعفة منبوذة من ذلك المجتمع، تتحرك حسب مقتضيات ذلك الوضع؟ أم نحن في مجتمع مسلم منحرف عن الإسلام، نعمل على تصحيح الأوضاع فيه، بردّها إلى الصورة الإسلامية الصحيحة؟ أم ماذا نحن على وجه التحديد؟

واقعنا المعاصر بين المرحلة المكية والمدنية

ولخطورة هذه القضية، وماثار حولها من جدل، وما ترتب على هذا الجدل من الفرقة، نود أن نتدارسها بروية، وأن نصل فيها إلى تصور واضح، غير متأثرين فيه بعواطفنا، أو بمواقف معينة نحبها أو نكرهها.

لسنا في المرحلة المكية بكل تأكيد! فنحن -العاملين في حقل الدعوة، والمستجيبين لها- نصوم ونحج، وقد فرض الصيام والحج في المدينة! ونحن نحرّم كل ما حرّم الله، ونوجب كل ما أوجب الله، غير منحصرين فيما نزل من التحريم والتحليل في مكة!

ولسنا في المرحلة المدنية بكل تأكيد! فليست الدعوة ممكّنة في الأرض، وشريعة الله ليست هي المحكمة في الجزء الأكبر من العالم الإسلامي، والقائمون بالدعوة إما مغيّبون في السجون، أو معلّقون على أعواد المشانق، وإما مُضَيَّق عليهم بمختلف  وسائل التضييق.

فأين نحن على وجه الدقة؟ وأي منهج هو المناسب لنا؟ أهو المنهج الذي اتبعه الرسول  في مكة بأمر من الله؟ أم هو منهج الرسول  في المدينة، الذي اتبعه بأمر من الله؟ أم شيء آخر غير هذا وذاك، نجتهد فيه من عند أنفسنا بغير ضابط محدد؟!

قضية -كما ترى- لها أهميتها، وتحتاج إلى تحديد.

üüüüüüü

هناك فروق واضحة بيننا وبين المجتمع المكي ولاشك، يتكئ عليها كثير من الناس للتفريق بين وضعنا وبين ذلك المجتمع.

لقد كان الناس في المجتمع المكي ينكرون فكرة الإله الواحد إنكاراً مطلقاً، حتى إن القرآن الكريم قد حكى عنهم تعجبهم مما جاء به الرسول  من التوحيد : {أجَعَل الآلِهَةَ إِلها واحداً إنّ هَذاَ لشَيْءٌ عُجَابٌ}(ص : 5).. بينما نحن في العالم الإسلامي كله نُقر بأن الله واحد، ولا نعتقد أن هناك آلهة أخرى مع الله.

وكان الناس ينكرون فكرة البعث إنكاراً مطلقاً، حتى إن القرآن قد حكى عنهم تعجبهم مما جاء به الرسول  من عقيدة البعث : {وقالَ الذِينَ كَفَرُوا هَلْ نُدُلُّكُمْ على رجُلٍ يُنَبِّئُكُم إذا مُزِّقْتُم كلّ مُمَزَّقٍ إنَّكُمْ لفِي خَلق جديد، أفْتَرى على اللَّهِ كذِباً أم به جِنَّة}(سبأ : 7، 8).. بينما نحن -في العموم- نؤمن بالبعث، والجزاء والحساب، والجنة والنار، ودع عنك القلة القليلة الملحدة التي لا يقام لها وزن في هذا المجال.

وكان الناس ينكرون بعثة محمد  ورسالته، كما حكى القرآن عنهم : {وعَجِبُوا أن جَاءَهُم مُنذر مِنْهُم وقال الكَافِرُون هذا سَاحِرٌ كَذّاب}(ص : 4)، كما قالوا : {أَؤُنْزِلَ عَليهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا}(ص : 8).. ونحن -ودع عنك القلة الملحدة التي لا يقام لها وزن- نؤمن ببعثة الرسول ، وأنه مرسل من ربه، وأن القرآن كلام الله، أنزله على رسوله ، لا هو من كلام البشر، ولا هومن أساطير الأولين.

ولاشك أن هذا كله حقائق..

ولكن تعال ننظر من الجانب الآخر.

جاء الإسلام لينفي كل وساطة بين العبد والرب، ويجعل الصلة مباشرة بين العباد وبين الله : {وإذا سَأَلَك عبادِي عنّي فإِنّي قرِيبٌ أجِيبُ دَعْوةَ الدّاعِ إذاَ دَعانِ فلْيَسْتَجِيبُوا لِي ولْيُومِنُوا بي لعَلّهم يَرْشُدون}(البقرة : 176).

فماذا فعلت الصوفية في عقائد الناس؟ لقد جسّمت الشيخ في حس المريد، حتى أصبح واسطة بين العبد وربه، لا يملك أن يدعو الله باسم من أسمائه الحسنى إلا بإذن الشيخ، الذي يطلع على الأفئدة، ويقرر لكل فؤاد ما يصلح له من الأسماء، والمدة التي يستخدم فيها الاسم الممنوح له، ويظل سلطان الشيخ قائماً في قلوب المريدين، حتى بعد موته بألف عام، فالموت لا يحول بين السلطان الروحي وبين القلوب.. والتمسح بالضريح، والدعاء عنده، والاستغاثة والاستعانة والذبح، هي علامات الإخلاص من المريد للشيخ، وهي كذلك وسائط التقرب إلى الله!

هل يختلف هذا كثيراً عن قول الذين كانوا يقولون : {ما نَعْبُدُهم إلا لِيُقَرِّبونا إلى الله زُلْفَى}(الزمر : 3).. أليس هذا شركاً واضح الأركان؟

وجاء الإسلام ليلغي كل تشريع من صنع البشر، ليقيم شريعة الله وحدها، وربط ذلك بأصل العقيدة : {ومَن لم يحْكُم بما أنزَل اللَّهُ فأُولئِك هِم الكَافِرُون}(المائدة : 44)… وجعل علامة النفاق الذي ينفي الإيمان، الإعراض عن شريعة الله : {ويَقُولُون آمنّا باللَّه وبالرَّسُول وأطَعْنا ثمَّ يتَولّى فريقٌ مِنْهُم من بَعْد ذلك وما أولئِك بالمؤمنين، وإذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم مُعرضُون، وإن يكُن لهم الحقُّ ياتُوا إليه مُدْعِنِين، أفِي قُلُوبِهِم مرضٌ أم ارْتَابُوا أم يَخَافُونَ أن يَحِيفَ الله عليهم رسوله بلْ أُولئِك هم الظّالِمُون، إنّما كان قول المومنين إذا دُعُوا إلى اللَّه ورسوله ليَحْكُم بينهم أن يقولوا سمِعْنا وأطَعْنا وأولئِك هم المُفْلِحُون}(النور : 47، 51).

وجعل اتباع البشر فيما يشرّعون بغير ما أنزل الله بمثابة اتخاذهم أرباباً من دون الله، على مستوى عبادة غير الله سواء بسواء : {اتّخَذُوا أحْبَارَهُمْ ورُهْبَانَهُم أرْبَاباَ مِن دُون اللهِ والمَسِيح ابن مرْيَم وما أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا إلهاً واحداً لا إله إلاّ هو سُبْحانه عمّا يُشْرِكُون}(التوبة : 31).

فماذا فعلت العلمانية في حياة الناس؟

كم حكومة في الأرض الإسلامية تحكم بما أنزل الله؟ وماذا يُقال على ألسنة العلمانيين عن شريعة الله؟ أليس هذا شركاً واضح الأركان؟

كيف نحكم إذن على هذه الأوضاع؟

يكمن الإشكال في الحكم على الأوضاع القائمة اليوم في العالم الإسلامي، في التناقض الشديد بين ما يعلنه الناس عقيدة لهم، وما يمارسونه في الواقع.. ثم الاختلاف في الحكم على هذا التناقض، هل هو مخرج من الملة، أم هو دون ذلك؟ بعبارة أخرى : الإشكال هو الحكم على الناس.

وفي رأيي -من سنوات عديدة- أن هذه القضية لا ينبغي أن تشغلنا في مجال الدعوة، ولا ينبغي أن نقف عندها ونفترق حولها، ونتجادل ونتحزب، ويذهب كل فريق منا في اتجاه.

إن الناس -إلا من رحم ربك- واقعون في الشرك لا جدال في ذلك، سواء شرك الاعتقاد، أم شرك العبادة، أو شرك الحاكمية، (شرك الاتباع).. ولكن الحكم عليهم بأنهم مشركون قضية أخرى مختلفة، فليس كل من وقع في الشرك يحكم عليه بأنه مشرك، إلا إذا توفرت فيه شروط معينة، وانتفت عنه الموانع التي تمنع تنزيل الحكم عليه.

يقول ابن تيمية رحمه الله : >وكنت أبين لهم أن ما نُقل عن السلف والأئمة، من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا، فهو أيضاً حق، ولكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين، وهذه أول مسألة تنازعتفيها الأمة من مسائل الأصول الكبار، وهي مسألة الوعيد، فإن نصوص القرآن في الوعيد مطلقة، كقوله : {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما} الآية.. وكذلك سائر ما ورد : من فعل كذا فله كذا، فإن هذه مطلقة عامة، وهي بمنزلة قول من قال من السلف : من قال كذا فهو كذا. ثم الشخص المعين يلتغى حكم الوعيد فيه بتوبة أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو شفاعة مقبولة.. والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول ، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجّة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئاً<(1).

وقال رحمه الله في مكان آخر (2) : >فإن نصوص الوعيد التي في الكتاب والسنة، ونصوص الأئمة بالتكفير والتفسيق ونحو ذلك، لا يستلزم ثبوت موجبها في حق المعين، إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، لا فرق في ذلك بين الأصول والفروع<.

وقال في موضع ثالث (3) : >وأما تكفيرهم وتخليدهم ففيه أيضاً للعلماء قولان مشهوران، وهما روايتان عن أحمد، والقولان في الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم. والصحيح أن هذه الأقوال التي يقولونها، التي يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول كفر، وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضاً. وقد ذكرت دلائل ذلك في غير هذا الموضع، ولكن تكفير الواحد المعين منهم، والحكم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه، فإنما نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق، ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام، حتى يقوم فيه المقتضى الذي لا معارض له، وقد بسطت هذه القاعدة في قاعدة التكفير<.

مفتاح القضية بالنسبة للدعوة ومنهج الحركة

فالناس -إلا من رحم ربك- واقعون في شرك يشبه شرك الجاهلية، وإن لم يكونوا بالضرورة كلهم ممن يتنزل عليهم حكم الشرك. والذي يهمنا في الدعوة هو بىان حقيقة الإيمان، وبيان نواقض الإيمان، ودعوة الناس إلى ترك ما هم واقعون فيه من الشرك -بصرف النظر عن كونهم مشركين أو غير مشركين في حكم الله- ودعوتهم إلى اعتناق الإسلام الصحيح، وممارسته في عالم الواقع، لا في عالم الأماني، ولا في عالم الأوهام.

ليس الذي يهمنا أن نقول لفلان من الناس : أنت مشرك (أو نقول عنه ذلك)، إنما مهمتنا أن نقول له : إن ما تفعله شرك، وندعوه -بالحكمة والموعظة الحسنة- إلى الخروج من ذلك الشرك، والدخول في حقيقة الإسلام.

هذا من جانب الواقع الذي يعيشه الناس، وواجبنا تجاهه.

ومن جانب آخر فإن الأوضاع القائمة في العالم الإسلامي -إلا ما رحم ربك- أوضاع تحارب الدعوة، وتمنع الدعاة من بيان الحقيقة كاملة عن الإيمان ونواقض الإيمان، خاصة فيما يتعلق بالتشريع بغير ما أنزل الله، والسجون والمعتقلات والمشانق محشودة في الطريق، تترصد كل من يريد أن يبين حقيقة لا إله إلا الله كما أنزلت من عند الله.

فما المنهج الأنسب للدعوة؟ إلى أي شيء ندعو؟ وعلى أي شيء نركز؟ وأي الوسائل يوصلنا -أو يقربنا- لما نريد؟

إذا تصورنا الأوضاع القائمة على حقيقتها، وتخلصنا في الوقت ذاته من الإشكالات التي تترتب على إصدار أحكام على الجيل الحالي من الناس، قبل إقامة الحجة عليهم بالحكمة والموعظة الحسنة، فإننا نجد أنفسنا أقرب ما نكون إلى المرحلة المكية من الدعوة، وإن لم نكن في وضع مماثل لها تماماً، بسبب بعض الفروق بين هذا الوضع وذلك، وهي فروق قد تتسبب في اختلاف الحكم على الناس، ولكنها لاتغير الحكم على الأوضاع، والأوضاع هي التي تقرر في الحقيقة منهج الدعوة، وتقرر أقرب الوسائل إلى بلوغ الأهداف.

ومن هنا نجد أن موضع الاقتداء بالجيل الأول أوسع بكثير مما قد يبدو عند الوهلة الأولى، وأن قضايا كثيرة يلزمنا أن نرجع فيها إلى تلك الفترة، نتدبرها ببصيرة مفتوحة،ونستلهم منها طريقنا في الدعوة، ونتطلع إلى فضل الله أن يلهمنا فيها الصواب.

——-

(1) مجموع الفتاوى -المجلد 3- ص : 230، .231

(2) مجموع الفتاوى -المجلد 10- ص : .372

(3) مجموع الفتاوى -المجلد  28- ص : 500، .501

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>