مع كتاب الله تعالى : تفسير سورة التحريم {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النّبِيء والذِينَ آمَنُوا معَهُ نُورُهم يسعَى بَيْنَ أيْدِيهِمْ وبأيْمَانِهِم} الحديث عن الصحابة بين المنهج الإلهي والمنهج البشري


 

-1 فوز الصحابة بالجنة وبشهادة الله لهم بالتقوى يُكْبِتُ كل حاقد :

إن كتاب الله يخلص خلوصا عجيبا إلى موضوعات أخرى من غير أن يشعرك بالانقطاع : {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار، يوم لا يخزي الله النبيء والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم..}، فهذا الكلام من غير أن تحس بالانقطاع يقذف بك في موضوع آخر وبسهولة ويسر، فيجعل بين الكلام الأول والكلام الثاني كلمة واحدة رابطة هي “يوم لا يخزي”، فانتقل الحديث إلى فائدة أخرى وهي أن الله تعالى لن يخزي نبيه يوم القيامة، ولن يخزي الذين معه، وهذه شهادة وإشارة من الله بأنه سينجي نبيه والذين آمنوا معه من الخزي -من النار-، وهي شهادة يفرح بها الذين  تتناولهم وهم طبعا الرسول  وهو مبشر بهذا الأمر في آيات كثيرة وعظيمة، والصحابة الذين آمنوا معه. فهذه الآية نص على أن الصحابة من أهل الجنة، ولن يخزيهم الله تعالى بسبب ما هم عليه من إيمان راسخ صادق مكين في قلوبهم، وبسبب أنهم ناصروا هذا النبي ، وبأنهم لم يكن يدفعهم إلى الإيمان أي غرض، لأن الإسلام يومها لم يكن يغري بشيء، ولم تكن كلمة الإسلام ثناء على الناس، ولم يكن أي شيء يحفز الناس سوى أنهم أحبوا هذا الدين وآمنوا به، فاندفعوا في غماره وفي أحضانه، هذا إذن يدفع بنا إلى أن نعتقد انطلاقا من كتاب الله أن الصحابة رضوان الله عليهم مع رسول الله  مشهود لهم بالجنة. وهذا أمريجب التوقف عنده ويجب تركيزه في الذهن، خصوصا حينما نصل إلى عصر مثل عصرنا هذا، الذي تختلط فيه المفاهيم. ويتحدث الناس فيهكما يشاؤون، لأنهم ليست لهم حدود موضوعية ومعروفة للعقيدة الاسلامية، فإذا كان الله تعالى شاهدا للصحابة بهذا الأمر في هذه السورة وفي هذا الموضع وفي مواضع من كتاب الله، فوجب أن نحفظ لهؤلاء الصحابة رتبهم ومكانتهم ونعرفها، ونحن الذين لم يشهد لنا الله بشيء، نحن الذين نحاول أن نحقق إيماننا فقط ليكون ايماناً صحيحا، أي نحن في مرتبة بعيدة جدا عن مرتبة الصحابة، فيجب أن نحترم مواقعنا، ودرجاتنا، ورتبنا، وأن لا نتطاول على أناس شهد الله لهم بهذه المكانة.

فما حديثنا نحن عن  أناس وُعدوا بالجنة، كيف نتحدث عنهم بوصف لا ينطلق الإنسان فيه من كتاب الله، فنظر إلى الصحابة كما ينظر إلى السياسيين والمثقفين، وينتقدهم كيفما شاء، نحن مقيدون بأن ننطلق من كتاب الله الذي ألزمنا باحترامهم وتعظيمهم،  فالله يقول : “هؤلاء الناس أنا قبلتهم وأعطيتهم الجنة، فكيف لك برأي آخر تتكلم من خلاله في عثمان، وعلي ومعاوية..” وأنت من شهد لك بالإسلام؟ أعداء الإسلام لا ينطلقون هذا المنطلق، لذلك فهم يبثون هذه السموم في كتبهم ويدرسونها للشبيبة المسملة وهم حاقدون على الصحابة، يأخذون الخبر كفيما كان تافها، فهم يتكلمون على المنهج والتوثيق، لكن إن كان هناك شيء ينتقص الصحابة فلا يوثقونه، من أين أخد الناس الأخبار الطاعنة في أبي هريرة، مثلا هل أخذوها من صحيح البخاري أو صحيح مسلم؟ هل وجدوها في الكتب الموثقة؟ لقد أخذوها من كتاب الأغاني، هذا الكتاب الذي يدل اسمه عليه، كتاب أبي الفرج الأصفهاني” لم يصح منه شيء إنه كتاب سمر وضعه لمنادمة الملوك، كان الناس يقرأونه وزجاجة الخمر تدار عليهم، فهو ليس بكتاب علم، فكيف تتهجم به على الصحابة، وتترك كتاب الله وهو شاهد لهم، أيهما أولى بأن يعتقد بأمره؟

حينما كان عمر بن عبد العزيز شابا صغيرا، وكان في المدينة يتلقى العلم على يد استاذه عبد اللهبن عبيد الله بن عتبة بن مسعود، وهو من علماء المدينة، وكان هذا الفقيه يحتفي بعمر بن عبد العزيز، لكنه أصبح في يوم ما غاضبا عليه ولم يلتفت إليه، فحز ذلك في نفس عمر وقال له : شيخي ماذا وقع؟ أراك قد أعرضت عني هذا اليوم ولم تهتم بي، ولم تعاملني بما كنت تعاملني به، فقال الشيخ : أبلغك أن الله تعالى غضب على أصحاب بيعة الرضوان بعد أن رضي عنهم، قال : لا، لم يبلغني شيء، قال : فما حديثك في فلان من الصحابة، وقد بلغني أنك قلت في شأنه كلمة، قال عمر : أستغفر الله وأتوب إليه مما قلته بصدد ذلك الصحابي..

وحينما ولي عمربن عبد العزيز الحكم، كان من أول ما فعله أنه ألغى الانتقاص من  الصحابة وسبهم على المنابر، ووضع للناس منهجا، وهو أن يقرأوا في نهاية الخطب، {إن الله يامر بالعدل والإحسان وايتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي}، ومنذ ذلك والخطباء إذا أرادوا أن ينهوا خطبهم قرأوا هذه الآية.

إذن فالطائفة الأولى من العلماء كانت على وعي كامل بما يجب اعتقاده في هذا الأمر.

أعود إلى النصوص المتعلقة بهذا الأمر، في مجلس الرشيد تحدث أناس من الخوارج، ومن الشيعة، وكان المجلس مضطربا وفيه أناس كثيرون، وذكر خبر فقال بعض الناس : ما ينبغي أن يكون هذا من كلام رسول الله  فإن أبا هريرة فعل كذا وكذا، كأنه يتهمه بالوضع، فرجحت هذه الكفة وساندها الرشيد فقال هذا لا يمكن أن يكون من كلام الرسول ، وهذا فيه نوع من التنقص لأبي هريرة، لكن أحد الحاضرين من العلماء الأثبات عمر بن حبيب وقف متصلباً ضد الرشيد، وضد الذين حضروا المجلس، وقال : إن هذا لا يمكن أن يكون إلا من كلام رسول الله ، وإن أبا هريرة قد صدق، مع أن الخليفة كان يقول بأنه غير صادق. فاضطرب المجلس ثم خرج هذا الرجل وذهب إلى بيته وهو يعرف عاقبة ما يقول ويفعل، وفي جوف الليل طلبه الرشيد في شيء من الحدة والغضب، قال : >وقد دخلت على الرشيد فوجدته متكئا وقد رفع أكمامه عن يديه وهو في حالة غضب والسيف بجانبه فقال لي : لم أر من واجهني ودفع قولي مثلما فعلت أنت هذا اليوم”، كأنه يريد أن يبطش به- قال : ما فعلت، قال : إنك رددت قولي حين قلت إن هذا الحديث لا يمكن أن يكون من كلام رسول الله ، وأنا أدافع عن حديث رسول الله، قال : إن الذي قلت فيه هدم للدين، لأن هذه الفرائض من صلاة، وزكاة، وحج..وما إليها وكل أحكام الإسلام إنما جاء بها الصحابة، فإن أنت طعنت في حجيتهم وفي صحتهم، وسربت للناس التشكك في حديثهم، فمن أين تصح الصلاة والصوم<، ؟إن الطعن في الصحابة وجه من أوجه التهجم على هذا الدين من أجل إسقاطه، وكتاب الله حافل بالنصوص التي تشهد للصحابة بخيريتهم، وبفضلهم وبرسوخ الإيمان فيهم، ولولا ذلك ما كان الله تعالى ليعطيهم كل تلك النتائج الباهرة التي حققوها في مجال محاربة الكفر والوثنية.

قال تعالى : {لقد رضي الله عن المومنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم ..} ويقف العلماء كثيرا عند قوله تعالى {ما في قلوبهم}، ماذا علم في قلوب الصحابة؟ لقد علم الإيمان الراسخ، والتصديق الحقيقي بهذا الدين، والمحبة الحقيقية لرسول الله  فلما علم سبحانه ما في قلوبهم كافأهم عن تلك الصفات وذلك اليقين، فكان أن بعث السكينة في قلوبهم. وذكر سبحانه أن وصف الصحابة ليس مذكورا في كتاب الله فقط، بل هو مذكور فيما سبق الإشارة إليهم، والإشادة بهم إشادة مما عرفته الأمم في الكتب السابقة خصوصا الثوراة والانجيل، وشبههم الله تعالى بالفسيلة التي تقوم وتظاهرها فسائل تؤيدها وتشدها وترفعها حتى تعطي أزكى الثمار.

ثم عقب الله تعالى بأمر مهم {ليغيظ بهم الكفار}، ويختلف المفسرون في معنى {ليغيض بهم الكفار} هل يراد بالكافر الفلاح أو يراد به الكافر الحقيقي، وذهب الإمام مالك إلى أن هذا الجزء متعلق بالصحابة، وأن الله أراد أن يغيط بهم الكفار، وقد قيل لمالك : إن فلانا ينتقص الصحابة ويتجرأ عليهم فقرأ هذه الآية وقال : من تنقص الصحابة أو نال منهم شيئا أصابه جزء من هذه الآية بمعنى أنه كافر، أو من المنافقين الذين يغيظهم ما عليه الصحابة، لذلك فلا يجوز للمسلم أن يكون حاقدا على الصحابة، أو أن يكون له نفس الإحساس والشعور الذي هو عند الكفار للصحابة، فمراتب الصحابة محفوظة وعقيدة أهل السنة أن يعتبروا هذا الأمر ويشدوا عليه بالنواجذ.

كذلك الحاقدون على الإسلام والراغبون في تدميره يدخلون من هذا المدخل خصوصا إذا كان الصحابة أولي مكانة في هذا الدين، الذين تهجموا على عثمان يعرفون أن عثمان هو النتيجة المباشرة لتربية الرسول ، رجل التصق بالنبي عليه السلام وصاهره، وولي منصبا مهما وكانت له مكانة في الدولة الإسلامية، فتحطيمه هو نوع من التهجم على الإسلام.

لو قرأتم كتب الحديث لوجدتهم أن صورة عثمان صورة مشرقة وجميلة، صورة الرجل الذي عرفه النبي  وزكاه وصاهره وشهد له بأنه رجل تستحيي منه الملائكة. ورجل كان ضحية المؤامرات التي حيكت ضد الإسلام.

-2 الطعن في الصحابة طعن في الدين  :

ما سبق إذن أعطانا تصوراً وفكرة عما وجب اعتقاده إزاء الصحابة رضوان الله عليهم. أبو هريرة مثلا قد تعرض لما تعرض له من الهجوم الشرس، وكتبت في شأنه كتابات ظالمة، وما ذلك لأنه من أكثر الصحابة رواية للحديث، فالذي رواه أبو هريرة يتجاوز خمسة آلاف وثلاثة مائة حديث، وبما أن كثيرا من الأخبار ومنهأ أخبار النبي  وسنته يمر عبر أبي هريرة (أو عن طريق أبي هريرة) فإسقاطه أو تجريحه يسقط كل هذه الأحاديث في الحقيقة، وسقوط هذه الأحاديث ليس بالأمر الهيّن، فهي أحاديث بعضها متعلق بالصلاة، وبعضها متعلق بالصوم، ومتعلق بالحج، وما إلى ذلك، ولا سبيل إلى معرفة الحكم فيها إلا من قبل رواية أبي هريرة، فالطعن فيه هو الطعن في جزء كبير من السنة، وإن سمحنا بالطعن في أبي هريرة سمحنا بالطعن في عائشة رضي الله عنها، وسمحنا بالطعن في كل الصحابة الذي رَوَوْا، بمعنى أننا ننقض الإسلام من حيث نريد أولا لا نريد من حيث نشعر أو لا نشعر.

-3 حذار من تصديق الصورة المشوهة للصحابة في كتابتا النصراني جورجي زيدان :

ونحن في نهاية المطاف نعطي للعالم صورة سيئة عن الصحابة، نقول للناس : إذا كان الإسلام لم ينجح في تربية هؤلاء الذين كانوا متصلين كل الاتصال بالنبي عليه السلام، هؤلاء الذين كانوا تلامذته، كانوا أصحابه، كانوا مرافقيه، كانوا أصهاره، كانوا مجاوريه، ومع ذلك فقد وقع منهم ما وقع من انحرافات مثلا، إذا كان ذلك، فلا يطمع أحد بعد ذلك في أنه سوف يكون أحسن حالاً، ولذلك ترَوْن أن الهجمة على الصحابة هجمة قوية ومدروسة، وما كتبه جرجي زيدان -وهو مسيحي ظالم- يدخلفي هذا الإطار، منذ زمن كانوا يأخذون المُثُل، والأشخاص اللامعين في حياة هذه الأمة ويضربونهم،ويكتبون عنهم قصصا داعرة فاجرة، فربما تنزل مكانة هذا الصحابي أو هذا القدوة في عيون المسلمين خصوصا في عيون شباب المسلمين، أي لو قرأتم روايات تاريخ الإسلام لجرجي زيدان، لو قرأتم عن حياة هؤلاء العظماء لوجدتهم أنهم كانوا مثلنا أو أقل منا، كان يقع لهم الهيام بالنساء، وكانوا يتابعون شهواتهم وعواطفهم وغرائزهم، بمعنى أنهم ليسوا شيئا كبيراً، ليسوا شيئا مختلفا عنا اختلافا كثيراً. وتسقط بذلك المثل، ولا شك أن إسقاط هذه المُثل فيه مقصد، ونفس القضية حتى بالنسبة للروايات والمسرحيات أو التمثيليات التي تروج على أنها تُعرِّف بالعظماء كعمر بن عبد العزيز، وكالشافعي، هذه ربما فيها معنى من جهة من الجهات لا يتفطن إليها الإنسان العادي، عمر بن عبد العزيز في تمثيلياتنا وفي مسرحياتنا له ثلث اللحية فقط، وله أشياء كثيرة أخرى بمعنى أنه لا يشبه عمر بن عبد العزيز ولا يتصل به أي نوع من الاتصال. ولكن هذه أمور يجب أن تنجز من أجل الوصول إلى هدف أكبر. نحن بصفة عامة يجب أن نكون محافظين على هذا الباب، واقفين عنده، كل من يريد أن يعيش على عقيدة أهل السنة والجماعة فليحفظ مرتبة الصحابة وليتحرج من أن يقول عنهم كل ما لا يليق مادام الله تعالى قد سبقنا فقال {وكُلاًّ وعد الله الحُسْنى} وعد الله تعالى بأنه لن يخزي النبيء عليه السلام والذين آمنوا معه، فهذه إذن شهادة لهم وهذه تغني.

-4القاعدة عند العماء أنهم لا يسألون عن الصحابة لأنهم عدول :

ولذلك كان شأن العلماء، قديماً في الأخبار أنهم يسألون عن الرواة، الراوي إذا قال : “فلان حَدَّث” يسألون عنه، هل كان كذا، هل كان كذابا، لكنهم إذا عرفوا أن الرجل صحابيّ لا يسألون عنه، فالقاعدة عند العلماء أن الصحابي لا يسأل عنه لأن الصحابةعدول بمجرد كونهم صحابة، لأنهم خير القرون >خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم< كما قال  إذن فهذه عقيدة أهل السنة أوضَحتُها في هذا المجال.

{يوم لا يخزي الله النبيء والذين آمنوا معه} في هذا اليوم أي يوم الحساب {نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغْفر لنا إنك على كل شيء قدير}.

-5 للصحابة نور يوم القيامة يميزهم عن غيرهم :

وصف آخر لهؤلاء الصحابة الأخيار بأن الله سيكرمهم يوم القيامة بنور، هذا النور هو نور حسي، يسعى أي يمشي، والمشي الهادئ ربما لا يكون فيه سعي، بل يقال السعي إذا تجاوز المشي درجة من السرعة، فنور المؤمنين يوم القيامة من وجوههم ومن أيمانهم يمشي ويسعى، يسعى متعاظما وهذا النور شرف لهؤلاء الناس، ومعلمة يعرفون بها، هذا النور لا يكون لكل أهل المحشر، وإنما يكون لهؤلاء الناس المؤمنين، نور في وجوههم، ونور عن أيمانهم، لأنّ هذه الأَيْمَان بايعت رسول الله ، وجاهدت في سبيل الله تعالى، وأنجزت أكثر أفعال الخير بهذه الأيمان، فيكرمها الله تعالى بأن يجعلها منيرة مضيئة. والجبين والوجه كان ساجداً لله ، كان خاضعاً لله فيكرمه الله تعالى بأن ينوره الله يوم القيامة، ويكون النور متفاوتا بين رجل وآخر، فمنهم من يبتعد نورهم كثيراً، ومنهم من يكون النور عند قدميه، هؤلاء يدعون الله تعالى بأن يتم هذا النور وأن يعظمه لهم وأن يكون أكثر تجليا مما هو عليه، وهذه كرامة يريدها الله تعالى للمؤمنين الأخيار، بها يعرفون بين أهل المحشر، حينما تدْلَهّمُّ الظلمات، حينما يزول قانون الطبيعة، يزول ضوء الشمس، فإن المؤمنين يجدون النور فيهم، في أنفسهم، لا يقتبسونه من جهة أخرى ولا يستمدونه من جهة أخرى أو من مصباح معلق معهم، وإنما هم أنفسهم يتحولون إلى نور، ألا ترون أن الله أكرم كثيراً من الحيوانات وكثيرا من الحيتان على وجه الخصوص في أعماق البحار، بعض الحيتان تعيش في عمق البحر، وتنزل حيث لا يصل النور وتحتاج أن تعيش، فيُلْهِمُ الله تلك الأسماك إلى أن تتحول هي نفسها إلى منتجة للنور، فتصير منيرة مضيئة وبقدر ضوئها تستطيع أن تتصرف في عمق وظلمة البحر، هذا مثال حسي موجود الآن، إن القطربة الدابة الصغيرة المنيرة ترونها في الليل، فإذا بها تتحول من لونها المتفحم إلى أن تصير في الليل مضيئة ترى من بعيد، وأهل البادية لا يجهلون هذا ولا ينكرونه، فلا مانع أيضاً أن يكون المسلمون قد أعطوا يوم القيامة نوراً عظيماً، به يعرفون وهو مكافأة لهم على ما كانوا بصدده من الأفعال الخيرة خصوصاً الوضوء، خصوصاً السير إلى المساجد في الظلمة >بشر المشائين في الظّلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة< كما قال رسول الله }، فإن مما يورث به هذا النور التام أن يكثر الإنسان الخطى في الليل إلى المساجد لأداء الصلاة التي يتكاسل الناس عنها خصوصاً صلاة العشاء وصلاة الصبح، فالمشاؤون إلى المساجد يخوضون في الظلمات ويغامرون بأنفسهم ولا يدرون ما يعترضهم، فتكون مكافأتهم أن الله تعالى يكسبهم هذا النور، هذه الخصيصة التي يعرفون بها يوم المحشر. والمؤمنون مع ذلك يقولون {ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا} وهذا دعاء مُتواضع، أي إن النور موجود، وهم يريدونه أكثر، وإن المغفرة قائمة والله ستر عليهم وقد أرضاهم بهذا الموقف، ولكنهم مع ذلك يطمعون في أن تبقى هذه المغفرة متواصلة ومستمرة، فالمغفرة قد وقعت ولاشك وهم أحسوا أن لهم ذنوبا، وإن لهم أخطاء لا شك في ذلك، ولكنهم يريدون أن يبقى ستر الله متواصلا عليهم {إنك على كل شيء قدير} هذا كله باب مشرع ومفتوح، فمن شاء أن يكون من هذه الطائفة فليتأس بها وليلتزم بما كانت عليه في دنياها، ليرزقه الله نوراً مثل نورهم.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>