مجرد رأي :القمع التربوي.. والدرس الخصوصي


…يعلم الله وحده كم ترددت قبل أن أخوض في هذا الموضوع وذلك لاعتباريين أساسين : أولا لحساسيته البالغة، وثانيا خوفاً من أن أصيب قوما بجهالة فأصبح من النادمين. فلما نزلت القطرة التي أفاضت الكأس، قررت أن أُلقِي بما أجِد وأُحاذر وقد طفح الكيل وبلغ السّيل الزُّبى.. وما أريد إلا الاصلاح ما استطعتُ وما توفيقي إلا بالله.

وبعد، فلقد ظلت مُهمة التربية والتعليم من أنبل المهن وأشرفها على الاطلاق، حتى سلط الله عليها من يُسيمها الخسف والهوان من رجال ونساء لا يراعون في أبنائنا وفلذات أكبادنا إلاًّ ولا ذمة، ولا يستشعرون ثقل وسموّ الرسالة الملقاة على عاتقهم خطأ وزورا، فصاروا يتعاملون مع تلامذتهم وأجيال المستقبل تماما كما يتعامل البقال مع بضاعته، يُلوُون أعناقهم ويمارسون عليهم شتّى أنواع القَهْر والقمع (التربوي) من أجل إرغامهم على أخذ دروس خصوصية ودفع مبالغ غالبا ما تُقْتَطَعُ من قوت أسرهم ومن عرق جبين أوليائهم، كل ذلك لتلبية نهم وجشع هذه الشرذمة من لصوص (التعليم) والذين تسمّوا بالمربين وماهم بمربّين.

أقول هذا الكلام والحسرة تملأ قلبي والحزن يعتصرني باعتباري واحداً من أسرة التعليم التي كرمها الله تعالى برسالة التربية والتعليم وأنْعِمْ بها رسالة.

“قــم للمعلم ووفّــه التبجيلا

كـــاد المعلم أن يكون رســولاً”

أقول هذا الكلام بعد تردد شديد حِفاظاً على سُمعة رجال ونساء التعليم الشرفاء وعددهم كبير ولله الحمد. وقد لا يضيرهم تهافت شر ذمة من المرتزقة همُّها جمع المال من حلال وحرام على حساب جيل كامل من أبناء هذا الوطن الحبيب.

أقول هذا الكلام والقارئ الحصيف يعرف من أقصد من هؤلاء الذين أعمى الطّمع بصائرهم، وبصيرتهم فالتجأوا إلى طرق شيطانية للإيقاع بضحاياهم من الأبرياء وإرغامهم على أخذ دروس خصوصية قد لا يكونون في حاجة إليها لو أن هؤلاء قاموا بعملهم على أحسن وجه داخل الفصل. ومن أبرز الطرق والحيل التي يَلْجأ إليها هؤلاء، خاصة مع بداية السنة الدراسية، إعطاء التلاميذ تمارين تعجيزية تفوق مستواهم من أجل إفهاهم وإقناعهم في النهاية بطرق غير مباشرة بأن مستواهم ضعيف وأن ما تعلموا في المراحل السابقة لا يؤهلهم للمسايرة الجادة، فيبدأ الوهن والشك في القدرات يتسرب الى عقول البعض، عندئذ يقدم (المدرس) نفسه كالمنقذ من السقوط والهاوية، فتنهال عليه الطلبات ومعها ترتفع المداخيل، وهكذا دواليك، فيزداد (المنقذ) ثراء في حين ينكمش البعض خاصة ممن لا تَسمح لهم ظروفهم المادية الصعبة لأخذ دروس خصوصية، ينكمش هذا البعض البريء على نفسه مقتنعا متأكداً بفشله في المسايرة، فيخبو لديهم الحماس وتنهار أحلامهم وطموحاتهم كما تنهار قصور الرمل، فتتراكم أمامهم الإخْفاقات وتكثر المشاكل مع عائلاتهم بعدما خبا لديهم أيضا أي أمل كانوا يعلقونه على أبنائهم وهم في بداية طريقهم الطويل، وما يزيد هذا المنظر قتامة سلوك المدرس/المنقذ مع هؤلاء الأبرياء انتقاما منهم لعدم أخذ  دروسه الخصوصية؟! ولسائل أن يسأل : ما دور الإدارة بل والوزارة إزاء هذا العبث (التعليمي) الذي يسّاقط ضحاياه من خيرة أبنائنا كل سنة، ومع تساقطهم ترتفع أسهم المرتزقة؟!

الإدارة غالبا ما تكون على علم بمثل هذه السلوكات لكنها لا تحرك ساكنا في كثير من الأحيان، بل قد تجد من يشجع أمثال هؤلاء عن طريق دفع التلاميذ ممن لم يسْمع بعد بالمدرس المنقذ  لأخذ دروسه الخصوصية، وأحياناً قد يتم تلميع أمثال هؤلاء عن طريق إسناد الأقسام المتخصصة لهم لإكسابهم شهرة مزيفة، وإن كان على حساب تلاميذ هذه الأقسام المختصة وهم غالبا من أجود وأنجب العناصر على مستوى المقاطعة أو الجهة سلوكاً وحرصا وذكاء.

تفعل بعض الادارات أو بعض مرضى النفوس ذلككله لقاء هدايا بسيطة أو إدماج بنت أو ابن في دروس خصوصية بدون مقابل!! وليذهب الأبرياء من تلامذتنا ورأس مال هذا البلد إلى الجحيم، ولتتبخر آمالهم مادامت مداخيل المرتزقة ومن يحميهم في تزايد! وبعد ذلك نتباكى على هبوط المستوى الدراسي وضياع هيبة المدرس وفساد وعدم جدوى التعليم وغيره من الانتقادات المنافقة التي تملأ نوادينا ومقاهينا..

… بقي أن أضيف في نهاية هذا اللّوعة أنني لا أقصد بكلامي هذا بعض الشرفاء ممن يتطوعون لإعطاء دروس خصوصية لوجه الله وغيرة على هذا البلد وأهله.

ولا أولئك الذين يعطون دروسا خصوصية تحت طلب وإلحاح الآباء في بعض الأحيان لتدارك بعض النقص الحاصل لدى أبنائهم من جراء عدم قيام الصنف المرتزق بعمله أحسن قيام، أو من أجل إ عداد أبنائهم لتخصصات معينة لولوج معاهد عليا أو للدراسة بالخارج مثلا مادام القبول يتم على أساس المعدلات العالية. وللاشارة فإن هذا الصنف من المدرسين الأكفاء لا يقبلون في دروسهم الخصوصية إلا التلاميذ الذين لا يدرسون عندهم داخل فصولهم تجنبا لكل شبهة..

إلى مثل هؤلاء وغيرهم من المدرسين الشرفاء أقدم أسمى عبارات التحية والتقدير.. ومزيداً من الحرص على خدمة هذه الأمة من خلال أطفالها رجالات غدها، وإن الله لا يضيع أجر المحسنين، وأفضل أنواع القيام بالواجب حسن تربية الأجيال الصاعدة على العمل والجد والمثابرة ابتغاء لمرضاته وتحقيقا لوعده باستخلاف هذه الأمة في الأرض واشهادها على الخلق كافة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>