إن الأسرة تتكون من عناصر ثلاث : الأب والأم والأطفال، ينبني على هذا أن الأسرة لها دور أساسي ومسؤولية عظمى في تربية الإنسان وتكوينه تكوينا صالحا وفاعلا. إن هذه العناصر الثلاثة تتفاعل كلها سلبا وإيجابا في بناء الإنسان، وتحديد سلوكه، واختيار توجيهه، وصنع مستقبله..
إن كلا من الأب والأم والطفل يتبادلون التأثير، علما بأن للأب والأم دورا أساسيا ومتميزاً في تربية النسل وتوجيه النشء، لهذا لا يسوغ لنا أن نهمل دور الأسرة في تنشئة الطفل وبناء كيانه النفسي والاجتماعي والفكري، باعتبارها مؤسسة تربوية لا يمكن تغييبها أو الاستغناء عنها بالمدرسة أو الإعلام..
وهنا يمكن أن نناقش فكرة شائعة في بعض أوساط التفكير الإسلامي والتي تعتبر المدرسة هي حصن الدفاع الذي يحمي الشخصية الإسلامية أو يبني تلك الشخصية في مواجهة احتمالات الانحراف والفساد..
لا نريد هنا أن نقلل من أهمية المدرسة ومن الدور الذي تلعبه في عملية التأثير، إلا أن الأمر يحتاج إلى إيضاح نقطتين مهمتين :
الأولى : أن التأثير الذي تنجح المدرسة في تحقيقه يتم من خلال التوجيه المباشر الديني أو العقائدي أو السياسي، وهو ما تفعله المدرسة الإسلامية غالبا.. ولم تفعل الإرساليات ذلك إذا أردنا دراسة تجربتها كنموذج ناجح في العمل والتأثير، بل يتم هذا التأثير من خلال الفضاء الواسع الذي يحيط بالطالب داخل المدرسة، ويجعله يشعر بالانتماء إليه وإلى كل ما يعلق بهذا الفضاء الجغرافي على مستوى العلاقات والترفيه والنشاط والفنون وسواها مما لا يدخل في باب التعليم المباشر الذي لا يختلف برنامجه من المدرسة الإسلامية عنه في أي مدرسة أخرى إلا ما في الشكليات التي ترضي الذات ولا تمس الجوهر!
الثانية : أن المدرسة الإسلامية على الرغم من كل الجهود التي تبذلها في سبيل تربية النشء ووفقا لمبادئ وأخلاقيات التربية الإسلامية، تشكو -ومعها الأهل والمربون- من سيطرة ثقافة التلفاز على شخصية طلابهم الأبناء.. هذا يعني أن هناك ثغرة خلفية أكثر خطورة من المدرسة وهي ما ينبغي تحصينه والمحافظة عليه.
وما نريد قوله -دون أن نستفيض في الحديث عن سلبيات وسائل الإعلام والتلفاز، الذي أصبح عادة مملة- هو أن الأسرة هي التي تتعرض لمخاطر التشويه والتهميش وهي التي وجب العمل على تحصينها والمحافظة عليها من أي خرق أو تشويه.. فهي في نهاية المطاف جوهر نظام المناعة الذي نبحث عنه وينقصنا في طريق الخيرية الموعودة لهذه الأمة.. فعندما يكون نظام المناعة قويا، تصبح القدرة على استيعاب وتحويل الأشياء الخارجية أكثر حيوية وجذرية، أما إذا لم يتم تحويل هذا الشيء الخارجي، بسبب نقص في نظام المناعة، فان الجسم نفسه هو الذي يتعرض للتحول. والأسرة بنظام القيم والعلاقات بين الآباء والأبناء والحلال والحرام في داخلها ودور المرأة ورسالتها في التربية والرعاية.. هي أساس نظام المناعة والتماسك الاجتماعي الإسلامي، وهي ما ينبغي التشدد في المحافظة عليه، ويجب ألا يسمح باختراقه تحت أي ذريعة أو مسوغات..
لذلك نجد أن الله تعالى يوجهنا إلى هذه الحقيقة في قوله سبحانه وتعالى : {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة أعدت للذين كفروا}(التحريم : 6)، مع العلم أن النار هي مصير كل من ساءت علاقته مع الله تعالى، أو بمعنى آخر فهي مأوى من فسدت تربيته وانحرف سلوكه، واتجه في طريق المعصية وسخط الله جل وعلا..
إن مهمة التنشئة التربوية مُلقاة على عاتق الأبوين بالدرجة الأولى، هذه الأمانة الضخمة والمسؤولية العظيمة هدفها في نهاية المطاف هي النجاة من النار والفوز برضى المولى الغفار، ومن هنا تتأكد المسؤولية وتكبر.. يقول الرسول : >كلكم راع ومسؤول عن رعيته،الإمام راع ومسؤول عن رعيته والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها<(رواه البخاري).
وعن الحسن ] عن نبي الله قال : >إن الله سائل كل راع عما استرعاه، حفظ أم ضيع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته<(رواه ابن حبان في صحيحه)، فعلى الرجل (الزوج) أن يُعلّم ولده أحكام الحلال والحرام، ويجنبه المعاصي والآثام، وأن يعلمه ما لا يستغني عنه من الأدب ومكارم الأخلاق. ففي الحديث الشريف : >حق الولد على والده أن يحسن اسمه، ويعلمه الكتابة، ويزوجه إذا أدرك، ويعلمه الكتاب (أي القرآن)<(رواه الحاكم والديلمي). ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام : >ما نحل والد ولدا -أي أعطاه ووهبه- أفضل من أدب حسن<(رواه الترمذي)، ويقول عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم أيضا : >لأن يؤدب الرجل ولده خير له من أن يتصدق بصاع<(رواه الترمذي) ويقول : >مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع<(رواه أبو داوود).
وبصفة عامة فإن مسؤولية الأب والأم هي في الرعاية والمحافظة والصيانة لفطرة أبنائهما، يقول الرسول الأكرم : >كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟<(رواه البخاري ومسلم)، فالإسلام يعتبر الأسرة مسؤولة عن فطرة الطفل، ويعتبر كل انحراف يصيبها مصدره الأول الأبوان، أو من يقوم مقامهما من المربين، ذلك أن الطفل يولد صافي السريرة، سليم الفطرة، قال تعالى : {فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم}(الروم : 30).