دروس وعبر من أحاديث الرسول : في التغيير الاجتماعي الإسلامي


قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإعلامنا الأخرص

عن أبي سعيد الخدري ] قال : سمعت رسول الله  يقول : >من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان< رواه مسلم.

أسباب فساد النظم الاجتماعية وكيف حاربها الإسلام

أ- الإسلام عكس النظم الاجتماعية الأخرى التي يسود فيها قانون الغاب، والسيادة حكرة على الأقوياء سواء كانت القوة مالية، أم إعلامية، أم حزبية، بل يحرص النظام الاجتماعي الإسلامي على أن يكون البقاء فيه للأصلح، والأطهر لأنه مجتمع نظيف طاهر لا مكان فيه للأمراض الاجتماعية الخطيرة.

ولعل الفضل في ذلك كله لا يعود إلى الحدود والقصاص قبل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنها هي التي تكتشف المرض وتقاومه في مهده قبل استفحاله وانتشاره.

ب- من أهم الأسباب في إفلاس النظم الاجتماعية الأرضية إهمالها لقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي هي خاصية من خصائص النظام الاجتماعي الإسلامي، والإسلام بهذه القاعدة يشرف الإنسان ويكرمه ويرفعه إلى درجة سامقة، ألا وهي درجة الاستخلاف في الأرض، فهو المنكِر لما أنكره الله، والمتقبِّل لما يعترف به الإسلام.

إذاً فالمسلم له كلمته وله وزن في هذا الكون لأنه يمثل عدالة الله، وهذا غاب عن ملائكة الرحمن حين قال الله لهم : {وإذ قال ربك للملائكة : إني جاعل في الأرض خليفة. قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال : إني أعلم ما لا تعلمون}(البقرة : 30).

كيف يكون إنكار المنكر بالقلب؟

جـ- إن الإنكار بالقلب لا يقف عند حد الانقباض في النفس والاستياء، بل له وقعه وسلطانه إن فسّر هذا التفسير القرآني : {وقد نزل عليكم في الكتاب إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره، إنكم إذاً مثلهم}(النساء : 140).

إنه المقاطعة الجماعية لأرباب الفسق والفجور، وها هو القرآن الكريم يصور لنا الحالة النفسية الحرجة، والمأزق المتأزم الذي وقع فيه الثلاثة الذين خلّفوا عن غزوة تبوك مع رسول الله وهم : كعب، وهلال، ومرارة. قال تعالى : {وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه}(التوبة : 118)، لقد دعا النبي  إلى مقاطعتهم وعدم مجالستهم حتى كان الواحد منهم يفشي السلام لأقرب أقربائه فلا يرد عليه، وهجرتهم نساؤهم وأهلوهم وأهملوهم حتى تاب الله عليهم.

د- الأمة التي تتغاضى عن المنكرات، وتعايش أرباب المعاصي وتتعامل معهم بلا تحفظ أمة تحارب الله ورسوله، وهي مشتركة مع فجّارها بسكوتها وإقرارها، قال تعالى : {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}(الأنفال : 25)، وصدق الشاعر في قوله :

بنو ثقيف ألا فانهوا سفيهكم

إن السفيه إذا لم ينْه مأمور

وهي بذلك تسعى في خرابها، وتعمل على تقويض بنائها كما فعلت من قبل بنو إسرائيل، قال ربنا سبحانه : {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون}(المائدة : 78).

هـ- لقد ضمن الإسلام حرية الفرد إذا لم تكن على حساب حريات الآخرين، كما راعى حرمة بيته وصانها من أن تكون عرضة للمداهمات والتسور والتجسّس، قال تعالى : {ولا تجسسوا}.

الدعوة ليست حرفة

-1 الدعوة إلى دين الله وإلى نبذ الشركاء والطواغيت ليست حرفة يحترفها من يحترفها تكسباً واسترزاقا، وليست منصبا يتفاخر به المتفاخرون، ويتباهون بمقعده الوثير ومرتبه الوفير، بل هي مسؤولية كبرى وأمانة عظمى.

الداعية المخلص أعرف الناس بثقلها وجسيم تبعاتها، لذا يسعى هذا الصنف دوما أن يكونوا شموعا تحترق لتضيء على البشرية، ويفجرون من أجسادهم ينابيع الدماء الزكية لتسقي شجرة العقيدة الإسلامية، وللّه درّ ذلك الداعية المخلص حين قال : وددت أن الخلق كلهم أطاعوا الله وأنّ لحمى قرض بالمقاريض.

كما كان عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز يقول لأبيه : وددت أنى غلت بي وبك القدور في الله تعالى.

ما كانت هذه التضحيات لتكون لولا أن سيد الدعاة ورسول الهداة عليه السلام جسّد هذا الفداء في أروع صوره  حين كانت الدماء تنهمر من وجهه  الشريف يوم أحد، ومع كل  هذا ظل يدعو لأعدائه : >اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون< صلى عليك الله يا علم الهدى.

-2 إن سلاح الداعية ليس هو السيف، بل هو الحكمة. قال تعالى {ادع إلى سبيل ربك  بالحكمة و الموعظة الحسنة} وكثير ما يكون للحكمة ،الأسلوب المهذب أبلغ الأثر في تغيير المنكر وصرف فاعله عن وجهته بالرفق، ،هذا غالبا ما يجدي مع ذوي الهيبة والوقار وأرباب الحكم والسلطان. روي أن رجلا من الصحابة  أكثر شرب الخمر بالشام فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب له : {حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم. غافر الذنب وقابل الثوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير} (غافر :.3-1) فترك الرجل الخمر وتاب ، وحكى التاج السبكي عن أبيه أنه كان يجتمع ببعض الأمراء، وكان الأمير يلازم الحرير فقال : ياأمير بكم الذراع من هذا؟ فقال : بدينار، فقال : في الصوف ما يساوي كل ذراع منه دنانير ومماليكك وخدمك يشاركونك في لبس الحرير ولا يليق بشهامتك أن يساووك فاعدل إلى الصوف، فإنه أعلى وأغلى مع ما فيه من السلامة من العقاب الأخروي فاستحسن كلامه، ولو قال له ابتداء  هذا حرام لم يفد.

-3  انطلاقا من حديث أبي سعيد عن النبي   قال : >أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان أو أمير جائر<. رواه أبو داود، وقف العلماء والدعاة المخلصون في وجه الجور والظلم وكانوا بجرأتهم كالسد في وجه السيل العرم. وذي بعض الأمثلة :

- أخرج مسلم في حديث طارق قال : أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجل فقال : الصلاة قبل الخطبة، فقال : قد ترك ما هنالك،، فقال أبو  سعيد : أما هذا فقد قضى  ما عليه، ثم روى هذا الحديث -الذي هو موضوع البحث- .

- والدارس للتاريخ الإسلامي يجد الكثير من هذه المواقف الفياضة بالشجاعة الإيمانية كمواقف سعيد بن المسيب مع الحجاج بن يوسف الثقفي، والإمام مالك مع الخليفة المنصور، والعز بن عبد السلام الملقب بسلطان العلماء، وابن باديس ومواقفه الصريحة من الاستعمار الفرنسي- .. وغيرهم كثير.

الإنفصام الخطير وإعلامنا الأخرص

-1 يعاني الفرد المسلم اليوم في كثير من المجتمعات الإسلامية انفصاما خطيرا في شخصيته نظرا للتباين  الكبير بين مبادئه ومعتقداته، وبين ما يجري حوله، وبين ما يقول وما يفعل، بين ما يتصوره عن الإسلام وما يلمسه في المسلمين، بين ما يسمعه بالمسجد أو المدرسة وما يتعامل به في المتجر والمصنع والبيت والشارع، يعيش في دوامة هذا التناقض بينه وبين المجتمع الذي يعيش فيه، بل  وربما بين ما بداخله وما بخارجه ، ومنشأ هذا في اعتقادي الرضى بالمنكر وتجاهل المعروف وعدم الأمر به، ومن ثم عدم ائتمار الآمر بالمعروف وانتهاء الناهي :{أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب  أفلا تعقلون}البقرة :.44

-2 الكثير من مجلات العالم الاسلامي وصحفه شيطان أخرص، إذ تخوض هذه  الوسائل الإعلامية  في كل مجال إلا مجال الدين الاسلامي، اللهم إلا بعض الفقرات في بعض أعمدة تكرس الشريعة الاسلامية في الاخلاق فحسب، وربما تطرقت إلى الخلافات الفقهية  والعراكات الكلامية ، ولكنها عما يجري في عالمنا الإسلامي عمياء، وعن واقع المسلمين وما يحاك للدعوة الاسلامية من الغرب والشرق خرصاء بكماء؟

عن كتاب المعاني الخفية

في الأربعين النووية -بتصرف

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>