الحقيقة الثانية
باب الكرم والرحمة
وهو تجلي اسم “الكريم والرّحيم”
أمن الممكن لربّ هذا العالم ومالكه الذي أظهر بآثاره كرماً بلا نهاية، ورحمة بلا نهاية، وعزة بلا نهاية، وغيرة بلا نهاية، ان لا يقدّر مثوبة تليق بكرمه ورحمته للمحسنين، ولا يقرر عقوبة تناسب عزته وغيرته للمسيئين؟.. فلو أنعم الانسان النظر في سير الحوادث ابتداءً من أضعف كائن حيّ وأشده عجزاً(1) وانتهاءً بأقوى كائن، لوجد أن كل كائن يأتيه رزقه رغداً من كل مكان، بل يمنح سبحانه أضعفهم وأشدّهم عجزاً ألطف الأرزاق وأحسنها، ويسعف كل مريض بما يداويه.. وهكذا يجد كل ذي حاجة حاجته من حيث لا يحتسب.. فهذه الضيافة الفاخرة الكريمة، والاغداق المستمرة، والكرم السامي، تدلّنا بداهة، أن يداً كريمة خالدة هي التي تعمل وتدبر الأمور.
فمثلاً : إن إكساء الأشجار جميعاً بحلل شبيهة بالسندس الخضر -كأنها حور الجنة- وتزيينها بمرصعات الازهار الجميلة والثمار اللطيفة، وتسخيرها لخدمتها بإنتاجها ألطف الأثمار المتنوعة وألذها في نهايات أغصانها التي هي أيديها اللطيفة.. وتمكيننا من جني العسل اللذيذ -الذي فيه شفاء للناس- من حشرة سامة.. وإلباسنا أجمل ثياب وألينها مما تحوكه حشرة بلا يد.. وادّخار خزينة رحمة عظيمة لنا في بذرة صغيرة جداً.. كل ذلك يرينا بداهةً كرماً في غاية الجمال، ورحمة في غاية اللطف.
وكذا، إن سعي جميع المخلوقات، صغيرها وكبيرها -عدا الانسان والوحوش الكاسرة- لإنجاز وظائفها بانتظام تام ودقة كاملة، ابتداءً من الشمس والقمر والأرض إلى أصغر مخلوق، بشكل لا يتجاوز أحد حدّه قيد أنملة، ضمن الطاعة التامة والانقياد الكامل المحفوفين بهيبة عظيمة، يظهر لنا أن هذه المخلوقات لا تتحرك ولاتسكن إلا بأمر العظيم ذي العزة والجلال.
وكذا، إن عناية الأمهات بأولادهن الضعاف العاجزين -سواء في النبات أو الحيوان أو البشر- عناية ملؤها الرأفة والرحمة(2)، وتغذيتها بالغذاء اللطيف السائغ من اللبن، تريك عظمة التجليات، وسعة الرحمة المطلقة.
فما دام رب هذا العالم ومدبّره له هذا الكرم الواسع، وهذه الرحمة التي لا منتهى لها، وله الجلال والعزة المطلقان، وإن العزة والجلال المطلقين يقتضيان تأديب المستخفين، والكرم الواسع المطلق يتطلب إكراماً غير متناه، والرحمة التي وسعت كل شيء تستدعي إحساناً يليق بها، بينما لا يتحقق من كل ذلك في هذه الدنيا الفانية والعمر القصير إلا جزء ضئيل جداً هو كقطرة من بحر.
فلابد أن تكون هناك دار سعادة تليق بذلك الكرم العميم، وتنسجم مع تلك الرحمة الواسعة.. وإلا يلزم جحود هذه الرحمة المشهودة، بما هو كإنكار وجود الشمس التي يملأ نورُها النهار، لأن الزوال الذي لا رجعة بعده يستلزم انتفاء حقيقة الرحمة من الوجود، بتبديله الشفقة مصيبةً، والمحبة حرقةً، والنعمة نقمةً واللذة ألماً، والعقل المحمود عضواً مشؤوماً.
وعليه فلابد من دار جزاء تناسب ذلك الجلال والعزة وتنسجم معها. لأنه غالباً ما يظل الظالمُ في عزته، والمظلومُ في ذلته وخنوعه، ثم يرحلان على حالهما بلا عقاب ولا ثواب.
فالأمر إذن ليس اهمالاً قط، وإن أمهلت إلى محكمة كبرى، فالقضية لم تُهمل ولن تُهمل، بل قد تُعَجّل العقوبة في الدنيا. فإنزال العذاب في القرون الغابرة بأقوام عصت وتمردت يبين لنا أن الانسان ليس متروكاً زمامه، يسرح وفق ما يملي عليه هواه، بل هو معرّض دائماً لصفعات ذي العزة والجلال.
نعم، إن هذا الإنسان الذي أنيط به -من بين جميع المخلوقات- مهام عظيمة، وزود باستعدادات فطرية كاملة، إن لم يعرف ربه “بالإيمان” بعد أن عرّف سبحانه نفسه إليه بمخلوقاته البديعة المنتظمة.. وإن لم ينل محبته بالتقرب إليه بـ”العبادة” بعد أن تحبب إليه سبحانه بنفسه وعرّفها إليه بما خلق له من الثمار المتنوعة الجميلة الدالة على رحمته الواسعة.. وإن لم يقم بالتوقير والإجلال اللائقين به <بالشكر والحمد< بعد أن أظهر سبحانه محبته له ورحمته عليه بنعمه الكثيرة.. نعم، إن لم يعرف هذا الإنسان ربه هكذا، فكيف يُترك سدى دون جزاء، ودون أن يعدّ له ذو العزة والجلال داراً للعقاب؟
وهل من الممكن أن لا يمنح ذلك الرب الرحيم دار ثوابٍ وسعادة أبدية، لأولئك المؤمنين الذين قابلوا تعريف ذاته سبحانه لهم بمعرفتهم إياه بـ”الإىمان” ومحبته لهم، بالحب والتحبب له بـ”العبادة”، ورحمته لهم بالاجلال والتوقير له بـ”الشكر”؟.
———–
(1) ان الدليل القاطع على أن الرزق الحلال يُعطى حسب الافتقار، ولا يؤخذ بقوة الكائن وقدرته، هو : سعة معيشة الصغار الذين لا طاقة لهم ولا حول وضيق معيشة الحيوانات المفترسة، وبدانة الاسماك البليدة وهزال الثعالب والقردة ذوي الذكاء والحيل، فالرزق إذن يأتي متناسباً عكسياً مع الاختيار والقدرة، أي : كلما اعتمد الكائن على إرادته ابتلي بضيق المعيشة وتكاليفها ابتلاء أكثر.. المؤلف.
(2) نعم إن ايثار الأسد الجائع شبله الضعيف على نفسه بما يظفر به من قطعة لحم، وهجوم الدجاج الجبان على الكلب والأسد حفاظاً على فراخها الصغيرة. وإعداد شجرة التين لصغارها -التي هي ثمارها- لبناً خالصاً من الطين.. كل ذلك يدل بداهة -لأهل البصائر- أنها حصلت بأمر الرحيم الذي لا نهاية لرحمته، والكريم الذي لا نهاية لكرمه، والرؤوف الذي لا نهاية لرأفته وشفقته، وإن قيام النباتات والحيوانات -التي لا وعي لها ولا شعور- بأعمال في منتهى الوعي والشعور والحكمة، يبين بالضرورة أن عليماً مطلقاً وحكيماً مطلقاً هو الذي يسوقها إلى تلك الأعمال، وهي بأمره تأتمر.. المؤلف.