افتتاحية : كوارث الفساد الفكري


الفساد المادِّيُّ : عبارة عن اختلالٍ أو اضطراب أو عَطَب أو عطل في المادّة التي أصبحت فاسِدَةً أي غير صالحة للاستعمال والاستفادة منها، وهكذا نقول : فسَدَ اللحْمُ مثلا : أنْتَنَ، وفَسَدَ ا الدَّواء أصْبح سامّاً، وفسد البحْرُ أو النهْرُ تلوَّث فأصْبح خطراً على الكائنات الحيّة المتغذية منه.

ونقول كذلك : فسد الاقتصاد : تخرَّب فأصبحت الأسرة أو الدولة مفلسة بسبب التبذير أو الاحتكار أو سوء التوزيع، أو سوء التنمية والاستثمار.

ونقول كذلك فسدت السياسة : اضطربتْ أركانها، وفقدتْ هيبتها، بسبب اختلال موازينها وقواعدها، نظراً لتلاعب الأهواء بقوانينها وتسخيرها لخدمة المصالح الخاصة.

وأقبح فساد هو الفساد الفكري الذي منه ينبثق الفساد الاقتصادي والسياسي والتعليمي والاجتماعي والثقافي والقيادي، فالفكر الفاسد هو بؤرة الفساد ومنْبَعُه، فالفكر المريض بالأنانية، والانتفاعية، والدكتاتورية، والحزبية، والعشائرية، والعصبية، والفكر المريض بالسذاجة والغفلة والذل والاستسلام وتقديس المال والقوة المادية… لا علاج له إلا بالصّدمات القدرية بسبب فِتَنٍ مُدَمِّرة، أو ضربات عدُوٍّ جَائِحة، أو قوارِعَ ربانية زاجرةً…

كم هَلَّلْنا للألفية الثالثة قبل أن تشرق علينا شموسها وأقمارها ونجومها.. وكأننا ننتظر مولوداً جديداً سيُغيّر التاريخ بلََمْسَةِ ساحر، وجاءت الألفية الثالثة بالفعل ولم نَلْمَسْ أي تغيُّر جديد، وأيَّ طَعْمٍ جديد لا في التناوُل السياسي، ولا في التناول الاجتماعي، ولا في التناول الحقوقي، بل أطلَّتْ علينا طلعتها المباركة] بمزيد من المحسوبية، ومزيد من الانتهازية، ومزيد من العقوق لدين الأمة والوطن، ومزيد من التفاني في حبّ السلطة لقضاء المآرب الحزبية، ومزيد من التفجّر والتفجير للفساد الخلقي، ومزيد من التضييق على حرية التعبير، ومزيد من مصادرة الحريات، ومزيد من حِماية بؤر الفساد، ومزيد من تأسيس مراكز جديدة للفساد المتحكمة في القرار بأقنعة جديدة.. إلى غير ذلك مما لم نعْهَدْ بعضاً منه في الألفية الثانية المأسوف على حماسها وتطلُّعها وأحلامها التي ذهبت أدراج الرياح مع مطلع الألفية الثالثة.

وأقبحُ خلل في التفكير الشاذ العسير الهضم عقلا ومنطقا ومنهجا وسياسة أن نَجِدَ مثلا هذه الاختلالات :

1) فكرة إحياء الموتى وتشغيل المشلولين : فالموتى سياسيا لا يبعثهم إلا الله تعالى إن هم غَيَّرُوا الوِجهة وأقدموا على التوبة، وقاموا للّه مثنى وفرادى ثم تفكروا في مصالح الأمة ومصالح المجتمعات الإسلامية، وعزموا عزمة إيمانية معتمدة في التخطيط  والتنفيذ والأجْرَأة على القوي العزيز الجبار الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير.

والمشلولون استقلاليا لا في اتخاذ القرار، ولا في رسم السياسة المتخَذة بحرية وتحمل مسؤولية لا يُصْلحهم إلا البتْرُ والعَزْل عن الجسم المتحمِّل لأعباء ثِقْل الشَّلل والعجز بدون فائدة…

فما معنى أن يُعْلَن مثلا وزيرٌ عجزه التام عن ممارسة اختصاصه، ويعزم على تقديم استقلاله فيأتيه القرار بلزوم البقاء في مكانه على شكل أثر أو مُزَيِّنٍ في متحف يُقدم للناس مُتْعة النظر في الجمادات المُحنَّطَة، وما معنى أن يشهد حزب على فشل حكومة فشلا ذريعا ومع ذلك يُعلن تشبُّته بالبقاء بين فرقائها شكلا لا جوهراً، هل هذا التفكير ديمقراطي؟ ؟إسلامي؟ إنساني؟ عقلاني؟ دستوري؟ مُمْكِنٌ أن يكون الإنسان بليدَ الفهم ولكن ليس إلى درجة أن لا يفهم البدهيات الواضحات. أنظر مثلا إلى وزير النفط الكويتي لم تكد تمُرّ ثمان وأربعون ساعة على حادث المصفاة حتى قدم استقالته؟! فأين ما كانت تتغنى به الأحزاب والمنظمات والهيئات الفكرية من الدخول إلى الألفية الثالثة بالعقلية الجديدة؟؟ اللّهم إنالعقلية التي نراها في هذه الألفية لهي أقدم من الأولى والثانية ومما قبل التاريخ، إن التكتل والتجمع والتحالف الاستراتيجي يكون على الحق العام، والنفع العام، والمصلحة العامة، وإلا فما كان لله دام واتصل وما كان لغير الله انقطع وانفصل.

2) فكرة التواطؤ على إفقاد الوطن هويته : وتجنيد كل وسائل الإعلام ومراكز القرار لطمس الهوية، إن الجديد الذي ينبغي أن يكون في الألفية الثالثة هو رُشد القوة الفاعلة وإدراكها ألاّ حياة لنا تحت الشمس مع الناس إلا بشخصية قوية فاعلة لها استقلاليتها المستمدة من هويتها ومرجعيتها، ولها حضارتها المرتكزة على أصولها.

3) فكرة الجدال في القضايا الخيالية لإرضاء غرور الأسياد ومطامحهم : ومن ذلك مثلا ما يشغل به الناس من قضايا التعدد، فالتعدد لم يبق مشكلا لأنه لا وجود له إلا بنسبة شاذة، أما الموجود فعلا فهو العنوسة والعزوبة نتيجة للجهل والبطالة والإباحة، فلم الجدال في هذه النقطة؟؟

4) فكرة الربط المحوري بيننا وبين من لا يربطنا معهم لا دين ولا تاريخ ولا لغة : فمتى نعرف أن الأولوية في تخطيطاتنا يجب أن تكون للتجمع البشري المنسجم لغة ودينا ومصيراً وتاريخا ومشاعر، وبعد ذلك يأتي التخطيط في الدرجة الثانية للعولمة الحضارية والثقافية والاقتصادية بفكرة الأخذ والعطاء، وتبادل المنافع والتجارب والمصالح، فما تستطيع الأمة فعله وهي متجمعة هدفا وتخطيطا وطموحا واقتصاداً وعلماً وسياسة أفضل بكثير من استفراد الذئاب بشعوب الأمة الشاردة التائهة.

فمتى يستقيم تفكير نُخبنا ويَفهم أن التفريط في الجوامع هو الكارثة العظمى التي وزعت الشعوب أوزاعا وجعلتها شياهاً ونعاجا تحت رحمة الجزارين السفاكين بدون رحمة ولا شفقة؟؟ {إنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أحْبَبْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}(القصص : 56).

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>