كان في زمان المهدي(*) قاض يلي القضاء ببغداد يسمى “عاقبة بن يزيد”، فجاء في أحد الأيام للمهدي وهو خال فاستأذن عليه، فلما دخل -القاضي- استأذنه فيمن يسلم إليه ملف قضايا مجلس الحكم، وطلب منه الإعفاء من القضاء والإقالة من ولايته.
فظن المهدي أن بعض الأولياء قد عارضه في حكمه، فقال له في ذلك إنه إن كان قد عارضك أحد ننكر عليه، فقال القاضي : لم يكن شيء من ذلك، قال : فما سبب استعفائك من القضاء؟
فقال : يا أمير المومنين، تقدم لي خصمان منذ شهر في قضية مُشْكَلَة، وكلٌّ يدَّعي بينة وشهوداً، ويدلي بحجج تحتاج إلى تأمل وتثبت، فرددت الخصوم رجاء أن يصطلحوا أو أن يظهر الفصل بينهما، فسمع أحدهما أني أحب الرطب فعمد فجمع رطبا لا يتهيأ الآن جمع مثله لأمير المومنين، وما رأيت أحسن منه، ورَشا بوّابي بدراهم على أن يدخل الطبق علي. فلما أدخله علي أنكرت ذلك وطردت بوابي، وأمرت برد الطبق فرُدّ عليه.
فلما كان اليوم، تقدم الخصمان إلي فما تساويا في عيني ولا قلبي -مع أنني لم أقبل-، فكيف يكون حالي لو قبلت؟ ولا آمَنُ أن تقع عليّ حيلة في ديني فأهلك، وقد فسد الناس، فأقلني يا أمير المومنين أقالك الله، واعْفِني عفا الله عنك، فأقاله.
فهذا القاضي كان يعي حق الوعي قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ((قاضيان في النار وقاض في الجنة))، وكان يعي أيضا خطورة الرشوة وما تسببه من إفساد للقضاء، وإذا فسد القضاء فسد المجتمع كله.
إعداد : عمر داود
————-
(*) هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله المنصور بن محمد بن علي، الخليفة العباسي.