المسلمون واستراتيجية الأمن الثقافي


مدخل :

في ظل اشتداد الصراع الحضاري والثقافي بين الشعوب ذات الهوية الأصيلة، مثل الشعوب الإسلامية، وبين المنظومات الحضارية ذات الرؤية الإقصائية المؤسسة على خلفية المركزية الغربية، يظهر جليا أن القرن الحالي، سيكون، لا شك، قرن التحديات الثقافية التي ستُسحق خلالها كل الهويات التي لا تمتلك المرجعية القوية التي تمنحها المناعة التي تحميها من فعل الذوبان الحضاري، خاصة إذا نظرنا إلى هذه الحالة من خلال استحضار واقع الأمة الاسلامية في الوقت الحاضر الموصوف بالتخلف والتمزق والأزمات المتتالية، التي اكتسبته آفة الارتهان السياسي والاقتصادي الخطير، الذي قوض الدعائم الرئيسية للقوة الاسلامية؛ ولولا جهاد مجموعة من الأفراد والمؤسسات بداخل الجغرافية الإسلامية، وحتى بخارجها، لأحكم الطوق حول الهوية الاسلامية. غير أن هذا اللون من الجهاد النفسي والمالي والفكري غير كاف إذا ما قورن بحجم التحديات التي نواجهها من حين لآخر، خاصة إذا أخذنا بعين الإعتبار القوة المادية الضخمة للخصم، والمسافة الزمنية التي تفصلنا عن تطوره وتقدمه التكنولوجي، الذي سمح له بامتلاك آليات اختراق ما تبقى من الحصون، ونخر كيان الأمة من الداخل باستعمال الآلة الاعلامية بالأساس، والتي يمكن أن نطلق عليها مجازاً (حصان طروادة الجديد).

أمننا الثقافي في عصر الثورة المعلوماتية واختراق التطبيع

تدفعنا القضية المطروحة سالفا إلى تجديد الحديث عن الضرورة الملحة للأمن الثقافي الاسلامي، خاصة وقد تزايد الكلام في العقدين الأخيرين، عن دور الثورة المعلوماتية في اختزال الأزمنة والأمكنة على حد سواء، وتفجير بركان المعلومات وكسر الحواجز والحدود أمام انتشار كل الأفكار والمعارف، بل والحرص كل الحرص على تدويلها بالشكل الذي يرفض تمام الرفض “المقدس” في الاعتقاد والتفكير والعيش.

من هنا الهَمُّ الضخم الذي يطغى على مثقفي الأمة، المخلصين لهويتها ووجودها، إذ من متطلبات الوجود والشعور بالانتماء إلى الهوية، تحقيق الأمن السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والشعور به نفسيا وفكريا، بما يحقق العزة في النفس والرغبة في التشبت بتلك الهوية، بالرغم من كل ما من شأنه زعزعة أو تدمير الوجود الحضاري لتلك الأمة. كما أن حاجتنا إلى الأمن الثقافي، بالأساس، تفرضها طبيعة المسار الذي قطعته الشعوب المنتمية إلى الجغرافية الاسلامية، في علاقتها بالغير، خاصة إذا استحضرنا مجموع النكبات والنكسات والهزائم والتراجعات التي مُنيت بها غالبية هذه الشعوب، وما أسفرت عنه هذه الكوارث من إلحاق الضرر الجسيم بالأمة جمعاء، والشلل النصفي الذي عَطَّل فاعلية الجماهير وحَجَّرَ على عقول الكثيرين، وأحدث الازدواجية وقوَّض مجموعة من المشاريع النهضوية، ودفعبالأمة كَرْهاً، إلى قبول مسلسل الارتهان والتطبيع بعدما ابتليت مجموعة من المؤسسات السياسية والاقتصادية والثقافية بآفة التطبيع، تحت دعوى التسليم بالأمر الواقع.

لقد فشلت كل الثورات التغييرية في العالم الاسلامي بفعل هذا اللون من التطبيع، الذي يعتبر مؤامرة حضارية كبرى على حقوق الأمة الاسلامية، الشيء الذي يدعونا بإلحاح، إلى التفكير الجدي في المداخل الحقيقية، لا الزائفة إلى تحقيق متطلبات أمننا الثقافي، خاصة في زمن العولمة وما بعد العولمة، مع علمنا الأكيد بأن أي حديث عن هذه المتطلبات لابد وأن يستحضر الارتباط الوثيق الموجود بين هذا اللون المطلوب من الأمن، وبين القرار السياسي الجاري، والقوة الاقتصادية المتكاملة التي تسد ثُقوب التبعية، وكذا بكل البنى الاجتماعية المتصلة بحياة الناس ومعاشهم، وعلى رأسها البنية الاعلامية، الشيء الذي يعني، بصيغة أخرى، حاجة الشعوب الاسلاميةإلى استراتيجية شاملة تدعم خط الممانعة الثقافية والحضارية، التي تعطي للمسلم المعاصر الحق في الشعور بالانتماء الى هويته الأصلية، والقدرة على مغالبة كل أشكال التهويد والتنصير والاختراق..

إن الحديث عن الأمن الثقافي للأمة الإسلامية تلح عليه، إلى جانب ما سبق، الضرورة الحضارية، إذ يندرج بدوره في عداد المداخل الرئيسية المكونة للأمن العام، السياسي والاقتصادي والتربوي والاجتماعي والعسكري، خاصة إذا نظرنا إليه من زاوية كونه يعكس الثقافة التي تعبر عن هوية المسلمين ووجودهم، بل ورسالتهم الحضارية التي تحث على أمانة الشهادة على الناس.

الأمن الثقافي واستراتيجية الاستشراف المستقبلي

فمع الأزمة الحضارية للأمة واستفحال آفاتها التي تقوض كل دعائم الانعتاق من إسار التخلف والارتهان والغثائية، تبرز الحاجة إلى الحديث عن الخطة الحضارية الشاملة التي لا يمكن للأمة أن تتقوى وتفرض هويتها بالشكل الذي تريده إلا بتوفرها، والمقصود بذلك ضرورة العمل على توفير استراتيجية شاملة للبناء الثقافي الحامي لهوية الأمة، خاصة إذا أخذنا بعين الإعتبار أن من المكونات المغيّبة من حقل تفكيرنا الحضاري، مكون التخطيط المستقبلي لكل البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية، وذلك لغياب مركز الرؤية في حياتنا.

هذا الأخير الذي يمنحنا امكانية الإبصار الحضاري واستشراف آفاق المستقبل، وهي العناصر التي بها استطاع الغرب أن يدفع بالمجتمع الى الأمام بوتيرة زمنية خطيرة للغاية، مع العلم أن الوحي القرآني والحديثي، حثنا على امتلاك الرؤية العميقة للسنن الكونية والآفاق في الأنفس والمجتمع، لكننا أهملنا هذا اللون من التفكير واقتصرنا فقط على التقليد والتواكلية والاتباعية السلبية، مما عمَّقَ من ابتعادنا عن الفهم الصحيح للواقع، كما ابتعدنا عن الفهم الصحيح للقرآن والسنة النبوية.

إن أي حديث عن الخصوصية الثقافية للأمة الاسلامية، وهي تدخل القرن الميلادي الجديد بزخم من أسئلة الانبهار الحضاري، لا يمكن القيام به بدون استحضار المعالم الكبرى للخط الحضاري العالمي الراهن، خاصة مع الثورة الالكترونية الدقيقة، التي أعادت صياغة شكل الثقافات وتحكمت في خلفياتها ومقاصدها وآليات انتشارها. من هنا نؤكد على ضرورة الأخذ بعين الاعتبار جملة من الأمور لعل في مقدمتها التفكير الاستراتيجي، الذي يعني فيما يعنيه : فن استشراف المستقبل باعتماد التخطيط، وبهذا وذاك، يكون بامكان مفكري الأمة ومثقفيها استشراف مستقبل الثقافة وتنظيم كيانها، والتخطيط لوجودها بالفعل كأداة لحماية الأمن من خطر الذوبان والانصهار، مع العمل على تحويل الأهداف إلى واقع منفذ غير أن أهم نقطة لابد من إثارتها، ولو بإيجاز في هذا المقام، كوننا نفتقد إلى جانب الرؤية الاستشرافية في إطار “العمل في فريق”، إذ تغلب علينا الأعمال الفردية، وكلما حاولنا العمل بداخل الجماعة، فشل المخطط لأسباب شتى، لعل في مقدمتها غياب روح الفريق من حياتنا وسلوكنا، وعدم الاستجابة والاهتمام بأفكار ووجهات النظر التي يقدمها الغير.

فالاستراتيجية إذن فن يعلم أصحابه منهجية التنظيم والتخطيط والادارة والتفكير المستقبلي، بناء على مجموعة من المعطيات التاريخية والواقعية، كما يسهم في اكتساب منهجية الإبصار الحضاري والتدبر في السنن الكونية والاجتماعية والتاريخية، والاستعداد المتحمس لمواجهة كل صعوبات الاخفاق المفترضة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الدراسة الاستراتيجية تدفع إلى تحقيق مجموعة من النتائج نذكر أهمها في النقط التالية :

-1 النصر في المعركة الحضارية أو على الأقل تقليل حجم الخسائر.

-2 البناء القويم والمهيكل لمنظومة الدفاع الثقافي، والتي لا تتحقق إلا بامتلاك المداخل الحقيقية للدفاع الثقافي، وعلى رأسها :

أ- توافر الثروة المعرفية الكافية، التي تغطي المساحة الزمنية.

ب- التخطيط المتقن لمسار الأفكار والثقافة.

جـ- توافر الجيل العامل، والجيل البديل الذي يحقق استمرارية الأمن الثقافي.

د- توافر الرؤية المستقبلية الصحيحة التي تسعى إلى تحقيق التكامل بين المنظومات السياسية والثقافية والاقتصادية والتربوية والاعلامية..

إن هذه الخطوة الأساسية تجعلنا نؤكد على ضرورة إعداد الخبراء بموازاة مع إعداد الدعاة إلى الله جل جلاله. فبقدر حاجتنا إلى رجال الدعوة فإننا بحاجة ماسة إلى الخبراء في كافة التخصصات، الذين ينكبون على دراسة الظواهر والقضايا ذات الصلة بالسنن الكونية والنفسية والاجتماعية والتاريخية، للخروج برؤية مبصرة لمستقبل الأمة. فالدعوة إلى التخطيط وامتلاك الرؤية والقوة والمناعة، التي تكفي، على الأقل في المرحلة القادمة، في حمايتنا من الذوبان الكلي في المنظومة الحضارية الغربية، تقتضي امتلاك عنصر الابصار للذات والواقع والغير، وهو عنصر لا يمكن توفره إلا في ظل التفكير الاستراتيجي، الذي يكشف لنا بصورة جلية أن من مداخل تحقيق الأمن الثقافي ما يلي :

-1 امتلاك التكنولوجيا الدقيقة.

-2 الإبداع الثقافي المتنوع الذي يحقق ثلاثة أهداف :

أ- الاستيعاب الواعي لثقافة الماضي.

ب- والفهم العميق لمتطلبات الواقع الراهن، وحاجيات الناس، قصد اشباعها محليا، بدل الدفع بها إلى البحث عن هذا الاشباع خارج الذات.

جـ- والرؤية الاستشرافية لمستقبل الثقافة الاسلامية، التي تنظر إلى كيانها في ظل واقع ثورة المعلومات الدقيقة التي ستحكم عالم الغد بشكل مهول للغاية.

ذ. عبد العزيز انميرات

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>