افتتاحية : من هو النكرة الحقيقي ؟؟


كثر الحديث في الأيام الأخيرة -باستخفاف واستهزاء- عن الكُتَّاب المسلمين، والخطباء، والعلماء، الذين يؤدون دَوْرَهم وواجبهم في توْعية الشعب، وتحذيره من مزالق التردّي، ومكامِن الخطر الجالبة لسخط الله تعالى وغضبه، لأن المومن الحقيقي المقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يتَّخذ شعَارَهُ في الحياة ((إن لَمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيَّ غَضَبٌ فَلا أُبَالِي ولَكِنَّ عَافِيَتَكَ أوْسَعُ لِي)).

بضاعة هؤلاء الوَالغِينَ في أعْراضِ المسلمين لا تخرج عن نطاق الهوى، وخدمة المصلحة الحزبية الضيقة المغترفة من معين المرجعية الكارهة للإسلام بالأصالةِ والتَّبَعِيَّةِ، ارتضَوْا لأنفسهم التقوقُع المتحجِّر داخل كهوف الإلحاد المستورَد، ومغارات التزّلُف للأزلام البشرية المؤلهة، فلو انطلقوا من مرجعية وطنهم ما تاهُوا، ولو تأصّلوا في وطنيتهم وفكرهم ورُوحِهم وثقافتهم ما تشرَّدوا وتغرَّبُوا، فمصيبة هؤلاء المأزومين بالعولمة والحداثة أنهم يعيشون خارج الاهتمامات الوطنية الحقيقية، وخارج العواطف الإيمانية المُنْشِئَة للكيان الصحيح للوطن الإسلامي، كأن الإسلام لا يعرف عَوْلمةً ولا حداثَةً، وكأن الإنسان لا يمكن أن يكون عالميا وحَدَاثِيّاً إلا خارج إطار الدين والإيمان والخُلُق الرفيع، فالإسلام أطَلَّ على الناس بعالميَّتِه منذ أن كان محاصراً بمكة، {ومَا هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ للْعَالَمِينَ}(القلم : 52)، بل عالميَّتُه ليست محصورة في الإنسان فقط، ولكنها عالميَّةٌ تشمل الإنس والجن، وتشمل الإنسان والملائكة المستغفرين للمومنين الأطهار، وتشمل الإنسان والكون المسبح بحمد ربه، سماء وأرضا، وبرا وبحرا، فعوْلمة الإنسان أضيق بكثير جدّاً جدّاً من عالمية دين الرحمان.

والإسلام أطلَّ على الناس منذ ابتداء تكوين دَوْلته بفِقْهِ دُسْتُوريٍّ فريد، وتنظيم سياسي عالمي رائع، شَمَل كل المذاهب والطوائف بدون حَيْف أو تنقيص أو حَطٍّ من الكرامة أو إقصاء، بل الكُلُّ له الحقُّ في التعايُش بكرامة داخل القطاع الإسلامي العادل.

((والنكرة)) أيْسَرُ كَلِمَةٍ وجدَ فيها هؤلاء ضالَّتَهُم، حيث صاروا ينعَتون بها كل خطيب أو كاتب ليس له لقبٌ عِلْميٌّ بَرَّاقٌ، وليسَتْ له شُهْرَةٌ في الفكر المُراد تسويقُه وترويجُه لِخَلْخَلَة ثوابت الشَّعْبِ المسلم الذي يثق بخطبائه وكُتَّابه الأصلاء.

وهذا النعت يَحْمِل في طياته التعاليَ والتعاظُم والتكبُّر والتعالُمَ، فلا عِلْم إلاَّ عِلْمُهُم، ولا توجيه صائب إلا في فكرهم وتوجيههم وفهْمهم، وغيرُهم لا حق له في الكلام والتعبير وأداء حقوق المواطنة، وحقوق الله تعالى والعباد، فهل الفكر الإقصائي المقيت لا ترضاه الأديان، ولا العقول النيرة الرشيدة.

كما يحمل في طياته القَلْبَ الخَادع للموازين، فَبَدَل أن نَزِنَ الإنسانبمقولاته هَلْ هي حقٌّ أم باطل، نزِنُه بمنْزِلته ولَقَبِه ومكانته، وذلك هو التكريس والتأصيل لعبودية ((الشخصية)) الذي نادى بها فرعون -ولم يكن نَكِرةً- حيث قال : {مَا أُرِيكُمُ إلاَّ مَا أرَى ومَا أهْدِيكُمُ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ}(غافر : 29) فما أغنتْ عنه شيْئاً، وما قدَّمتْ لشعبه مشروعا حضاريا مميّزا.

كما يحمل في طياته الجهل بالعِلْم نفسه، فالعلم الحقيقي هُو ما هَدَى إلى الله تعالى، وأورثَ الخشية منه، وأصَّل في الإنسان الإخلاص والتجرد من الذاتية والأنانية، فليس عِلْمًا التخطيطُ لسَلْب خيرات الشعوب وثرواتها واستغلالها عن طريق الخداع، وليس علْمًا التفكيرُ في صناعة أسلحة عنصرية تصيب عنصراً خاصاً، وليس علمًا التفنُّن في ترويج الفاحشة، وتصنيع التمرُّد على الخلق لتدمير الإنسان..

فمن هو ((النكرة)) إذن؟؟؟!!. النكرة هو الذي افْتَقَدَهُ الله تعالى حيث أمره، ووجده حيث نهاه. والنكرة هو الذي سَيَتَنَكَّرُ له غداً يوم القيامة كُلُّ جارحة فيه، فلا تشهد له جبهتُه بسجدة لله تعالى، ولا يشهد له ظهرُه بركوع لله تعالى، ولا تشهد له رجلاه بالمشي إلى مساجد الله، ولا يشهد له لسانُه بدعوة خالصة لله، ولا تشهد له أصَابِعُه بتسبيحة لله.

والنكرة هو الذي سوف لا تشهد له ملائكة الرحمة، ولا المومنون المخلصون بعمل صالح خالص فيه خير الفرد والمجتمع.

والنكرة هو الذي يجرُّ الناس إلى غضب الله تعالى وخِزْيِ الآخرة، حيث سيقول لهم يوم يُقْبلون عليه بأحْمَالٍ من الأوْزَارِ والآثام {اخْسَأُوا فِيها -في جهنّم- ولاَ تُكَلِّمُون إنَّهُ كَانَ فَرِيقاً من عِبَادِي يقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وارْحَمْنَا وأنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فاتَّخَذْتُمُوهُمْ سُخْرِيّاً حَتَّى أنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إنِّي جَزَيْتُهُمُ اليَوْمَ بِما صَبَرُوا أنَّهُمْ هُمُ الفَائِزُونَ}(المومنون : 112).

وبالجملة فالنكرة الحقيقيُّ هو من أنكر اللَّهُ تعالى عَمَلَهُ، وتنكرتْ له ذاتُه، وتنكّر لهُ الملأ العُلويُّ والسُّفْليُّ، وتنكّر له الكَوْنُ كله، بَلْ وتنكّر له حتى الشيطان نفسُه الذي أغراه وخدعه، فقال له {إِنِي بَرِيءٌ مِنك إنِّى أخَافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ}(الحشر : 16) أما الذي يدعو إلى الله تعالى فكل ما في الكون يستغفر له حتى الحِيتَانُ في البحر {أَفَمَنْ كَانَ مُومِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لاَ يَسْتَوُونَ}(السجدة : 18).

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>